كنت في رحلة الى مصر المحروسة ، وقد قررت في هذه الرحلة خلافاً لرحلاتي السابقة الى أرض الكنانة ، أن أبحث عن الجديد ولو كلفني ذلك مزيداً من الارهاق والنفقات ، فقررت التوجه الى الصعيد للوقوف على حقيقة مانسمعه عن الصعيد والصعايده
وقبل الحديث عن الصعيد لابد أن نورد ماقاله الامام اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس في الصفحة 399 من المجلد الثاني حيث قال في تعريفه للصعيد : ( الصعيد بلاد واسعة بمصر مشتملة على نواح وبلاد وقرى عامرة مسيرة خمسة عشر يوماً طولاً وفي قوانين الديوان لابن الجيعان أن الأقاليم بالديار المصرية جهتان احداهما الوجه البحري وعدتها ألف وستمائة واحدى وخمسون ناحية والجهة الثانية الوجه القبلي وعدتها خمسمائة واثنتا عشرة ناحية وهي الاطفيحية والفيومية والبهنساوية والاشمونين والأسيوطية والأخميمية و( القوصية )
والصعيد كما هو معلوم هي الجزء الجنوبي من جمهورية مصر ، ومازالت التسمية التي أوردها ابن الجيعان موجودة حيث يطلق أهل الصعيد على البلاد جهة البحر ( بحري) قتجد أحدهم يقول لك : ( تروح بحري ) أي باتجاه البحر ويطلقون على الجهة الأخرى العكسية ( قبلي ) أي باتجاه أسيوط والمنيا وبني سويف حيث يمتد الطريق منها الى الجيزة ثم القاهرة ، وأما مسميات المدن التي أوردها فهي تختلف في عصرنا هذا وأعتقد أن الفيومية هي محافظة الفيوم اليوم والأسيوطية هي محافظة أسيوط ( من أعرق محافظات مصر وهى عاصمة محافظات الصعيد ) ، أما القوصية التي أوردها المؤلف فمازالت ليومنا هذا تسمى باسمها وهي أحد المراكز التابعة لأسيوط وقد استقريت بين أهلها قرابة أسبــوع
واليك عزيزي القارئ هذه الخارطة لجمهورية مصر وانظر من بعد الجيزة وحتى أسوان ، كل هذا الذي يبدو في الخارطة هو الصعيد اضــغط هــنا
توجهت من القاهرة ومنها الى الجيزة لأستقل (عربيه مخصوص ) بيجو موديل 79 وبصحبتي أحد أصدقائي – عمل في السعودية سابقاً – وهو صعيدي متمدن وذو خلق رفيع، يقدم أهل بلده اليه بالقاهرة فيخدمهم ويدلهم على الدوائر الحكومية ومايحتاجون اليه ، وهذا واجب عليه في تقاليدهم ولو لم يخدم أحدهم ( تبقا مصيبه )
المهم أننا سرنا بطلب مني باتجاه الطريق الزراعي وكان الوقت عصراً مررنا على بني سويف ومنها الى المنيا التي يطلقون عليها ( عروس الصعيد ) ومنها الى أسيوط ولاتسأل عن الطريق فعرضه لايتجاوز السبعة أمتار ، واحذر أن تصيبك الدهشة حين تجد أحد عابري الطريق مطفئاً لجميع أنوار سيارته
فانك ستجد آخر ممسكاً لزمام عدد من الجواميس ويصطحبهن في عرض الطريق!! والآخر راكباً لحماره الذي يحمل مقطورة خلفه مليئة بمحصول هذا اليوم من انتاج مزرعته
أضف الى ذلك أن كل قرابة عشرين كيلو ستجد حواجز للتفتيش !
وصلنا أول مراكز أسيوط مركز ( القوصيه ) فاتجهنا لنجع نزالي جنوب ، بلد صاحبي هذا كان وصولنا قرابة الساعة الثانية ليلاً ، فأصريت على صاحبي ألانحل ضيوفاً على أهله الا في الصباح ، توقفنا عند مقهى من اثنين لا ثالث لهما في البلد ، وبمجرد معرفة صاحب المقهى أن القادم عباس ( صاحبي ) وبصحبته ضيف من السعودية ، شمر عن سواعد الكرم وقدم كل مابوسعه أن يقدمه( مشكوراً ) بعد أن حلف بالطلاق المغلض ثلاثاً ألا يأخذ قرشاً واحداً مقابل ماقدمه لنا ، والحلف بالطلاق عند أهل الصعيد عادة لا تستغربها ، فالغالبية العظمى يحلفون بالطلاق على أتفه الأسباب وقد تسمعها من شخص واحد أكثر من مرة خلال خمس دقائق ، وهذا ماجعلني أقول لهم مازحاً : أشك أن امرأة واحدة في الصعيد لازالت في عصمة زوجها
جلست منبهراً من هذا الهدوء وتلك البساطة المتناهية ، وقبل الفجر بقليل ابتدأ بين كل فينة وأخرى يخرج من شارع صغير بجوارنا أناس يركبون حميرهم وكل يصطحب معه بضاعته الى السوق بحكم أن اليوم هو الخميس وفيه يكون سوق البلد هذا كهل وآخر صبي تستغرب كيف استطاع أن يركب راحلته وهو بهذا الحجم ، وأخرى عجوز قد احدودبت من عمرعتياً صلينا الفجر ثم توجهنا الى بيت أهل صاحبي ، فأدخلونا بيتاً يعج بالكرم ولكنه يشكوا ضعف ذات اليد ( حاله حال الشريحة الكبرى في البلد ) ، أخذنا قسطاً من الراحة في غرفة لم تحتوي على رخام فاره ، وانما فرش متواضع لايفصلك عن تراب الأرض سواه ، والحيطان من الطوب فقط دون دهان أو نقوش ، صحينا بعد ذلك فخرجنا نجوب شوارع البلد ( بالطبع على قدمينا ) شوراع أرى فيها ماقاله جدي عن طبيعة حياتهم السابقة يتحول من خيال الى حقيقة شوارع بالكاد تعبر منها سيارة واحدة ، لا سفلتة أو رصف ، لاترى فيها وسيلة مواصلات سوى الحمير ( أعزكم الله ) سوى الطريق الرئيسي الذي يمر بالبلد ففيه سيارات والطريق معبد
اشتمل ذلك اليوم على عدة جولات داخل البلد ، ثم خرجنا خلف البلد حيث توجد الغيطان ( المزارع ) ، وبجوارها نهر جار – هو روعة ذلك البلد – من حيث النظافة والصفاء والعذوبه ( كل هذا وبرفقتي مايقرب من أربعة عشر رجلاً ) خرجوا بصحبة الضيف ( واجب الكرم ) وان حملت شيئاً من متاعك ولو كيساً صغيراً فستضع مضيفك في موقف لايحسد عليه ، حيث سينتشر في البلد أن فلانا ترك ضيفه يحمل متاعه – وتلك خطيئة لاتغتفر –
ابتدأت على ضفاف ذلك النهر ونحن في سويعات المغيب أطرح تساؤلات كثيرة صالت وجالت في خاطري عن الصعيد والصعايده ، ابتدأتها بالسؤال عن حقيقة الثأر ( وطخ النار ) فقالوا لي أن تلك عادة تكاد أن تنعدم في هذا العصر خلافاً للسابق حيث تنتشر انتشار النار في الهشيم ، الا أن الثأر لايزال في نجع عبد الرسول حيث قتل هذا اليوم اثنين بداعي الثأر ، ويؤشر أحدهم عليه من على الضفة الأخرى من النهر
ويقول : هناك ان كنت تنظر يوجد مزارع للبانجو ( نوع من المخدرات ) وخلفها البلد – نجع عبد الرسول – حاولت أن أخفي علامات الدهشة ، ثم سألته هل تزرع هنا المخدرات ، أجاب ضاحكاً يزرعون البانجو والأفيون والحشيش ( كله بيتزرع مش في نجع عبد الرسول وحده ، في المناطق دي كلها ) ولما غابت الشمس وصلي من صلى منا صلاة المغرب ، ابتدأت أكمل طرحي للأسئلة ، أين الدولة عن تلك المزارع ؟ وكان الجواب : هنا في الارياف مافيش حكومه ، الحكومه ماتقدرش تخش هنا !!
تواصلت الأسئلة وتعدد المجيبون ، وبعد العشاء ذهبنا الى منزل صاحبي هذا وكلي تساؤلات : هل هذا كل مافي الصعيد ؟ ، أناس أشبه مايكونوا بالبدو!! لايجيدون من الحديث سوى تعابير الترحيب لضيفهم ، ومن القيل والقال - مانراه في كل القرى -فلان فعل كذا ، وعلان نوى كذا ، وقد تصل أحياناً الى شتم الآخرين ، واحياء فتيل الغيبة والنميمة ، دونما مبرر حقيقي لذلك القول ، هل فعلاً الصعيد مثال للتخلف ؟؟ ورغم ماعتراني من الدهشة الا أن ماخلد في ذاكرتي شهامة ذلك الشعب وكرمه رغم بساطته وفقره ، أكملت باقي أيامي قريباً من هذا البلد نخرج نهاراً ببعض الأسلحة نتسلى بها في جبل قريب من البلد ونجوب هنا وهناك على النهر وداخل البلد ونخلد مبكراً في المساء للنوم
بعد أن لبيت ماجلست كل تلك الفترة لأجله وهو اصرار كل رب أسرة أن أحل ضيفاً عليه هذا اليوم !!
توجهت الى أسيوط وهي كماذكرت أكبر محافظة في الصعيد ، عندما دخلتها لم أصدق أنها تابعة للصعيد ، بل لم أتصور أن كل هذا لم يكن يفصلني عنه سوى ثلاثين كيلو تقريباً ، شاهدت جامعة أسيوط ، ومابها من مباني ومايتبعها من مستشفيات ، قال لي أحد العامة هذه الجامعة أنشأها الملك فيصل ، ، ثم تواصل الحديث عن دورها في تخريج الجماعات الاسلامية في أسيوط ، وكيف استطاع زكي بدر أن يسيطر عليهم لينال بعد ذلك وزارة الداخلية بعد أن كان محافظاً لأسيوط ، أخذنا جولة في اسيوط ، ورأيت الفارق بسيط بينها وبين القاهرة ، اللهم الا في عدد السكان وفي متطلبات السياح ، أقمنا في فندق بدر – وهو فندق مشهور في أسيوط يملكه زكي بدر – وصادفت شيخاً كبيراً وكغيره يندهش بمجرد معرفته أني سعودي ، فسألته هل زرت السعوديه فقال : عمري ماخرجت من أسيوط ، أتبعت ذلك بالسؤال عن سنه فقال : عمري سبعين سنه !!! ، لك أن تتخيل أن نماذج كثيرة مثله لم تخرج من مدينتهم منذ ولدوا ، ولك أن تتصور أيضاً كيف سيكون تصورهم للحياة بشكل عام ، ودعنا أسيوط وتوجهنا الى سوهاج ومنها الى قنا ، وأصبحنا نرى تطوراً تدريجياً بحكم قربنا من مناطق سياحية توقفنا في الأقصر ، لنصبح بعد ذلك سياح في أماكن سياحية وليس ضيوفاً في بيوت كرماء ومنها الى أسوان ( بوابة المحروسة من جهة الجنوب ) ، ماأروع الآثار والنيل في الأقصر وأسوان ، الا أن الحديث عنهما ليس بجديد ، انما الجديد كان في الريف خصوصاً ومنه خلصت الى التالي :
1-أنه وان كان الصعيد هو العمود الفقري للاقتصاد المصري كونها منطقة زراعية ، وكون كبار التجار المصريين من أصول صعيدية ، الا أن في الصعيد – خصوصاً في الارياف - من يعانون من فقر مدقع يجعلك تحس أن من يعيش في القاهرة يعيش في نعيم وراحه ، فضلاً عمن يعيش هنا في بلادنا فتحمد الله مراراً وتسأله أن يديم نعمته علينا وأن يرزقنا شكرها ولنسع لذلك حتى لاتزول كمازالت ممن كفروا بها من قبل
2-أن مايقال عن الصعيد والصعايده هو ليس على وجه التعميم فالصعيد خرجت لنا علماء على مر العصور كالإمام جلال الدين السيوطى والامام الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الجامع الأزهر الشريف ووالمفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور رشدي فكار ، كما خرجت لنا زعماء لو لم يكن منهم الا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لكفى ، كما خاطب وجداننا بأعذب القول وفصيحه أدباء عظام من الصعيد ، كالأديب مصطفى لطفي المنفلوطى ، و الأديب والفيلسوف العظيم عباس محمود العقاد ، والشاعر عبد الرحمن الأبنودى
الا أن هذا لا ينفي أن في الصعيد من تحس أنهم خارج دائرة هذا الزمن ، وهم بحق لايعرفون شيئاً قط عن هذه الدنيا سوى محيط حياتهم الروتيني اليومي ، وماقول أحدهم حينما ذكرت الانترنت قال لمن حوله : ياعمي دا اللي عنده انترنت يقدر يشوفك وانت نايم في أوضتك ( غرفتك ) وأقره الحضور ، ولم يعارضه أحد منهم ، فماهذا الا مثال على مثل تلك النماذج التي أعتقد أنها هي السبب في كل مايقال من النكت عن الصعايده
3-أن مايتفق تقريباً عليه أهل الصعيد هو كرم الضيافة واحترام الضيف والقيام بالواجب معه على أكمل وجه ، فالشكر لكل من أكرمني في رحلتي تلك والشكر موصول لكل من أكمل قراءة هذا السرد ، الذي ترددت كثيراً في طرحه كوني أحسسته غاية في الملل والطول ولكن الدافع كان بالدرجة الأولى عرض تلك الرحلة – بعد اختصارها قدر المستطاع - بأي طريقة كانت لتنتقوا منهاماهو مفيد ان وجدتم ذلك ، وترموا مالاتريدون في عرض البحر0
...... دمتم ودام عـزكـم ..
وقبل الحديث عن الصعيد لابد أن نورد ماقاله الامام اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس في الصفحة 399 من المجلد الثاني حيث قال في تعريفه للصعيد : ( الصعيد بلاد واسعة بمصر مشتملة على نواح وبلاد وقرى عامرة مسيرة خمسة عشر يوماً طولاً وفي قوانين الديوان لابن الجيعان أن الأقاليم بالديار المصرية جهتان احداهما الوجه البحري وعدتها ألف وستمائة واحدى وخمسون ناحية والجهة الثانية الوجه القبلي وعدتها خمسمائة واثنتا عشرة ناحية وهي الاطفيحية والفيومية والبهنساوية والاشمونين والأسيوطية والأخميمية و( القوصية )
والصعيد كما هو معلوم هي الجزء الجنوبي من جمهورية مصر ، ومازالت التسمية التي أوردها ابن الجيعان موجودة حيث يطلق أهل الصعيد على البلاد جهة البحر ( بحري) قتجد أحدهم يقول لك : ( تروح بحري ) أي باتجاه البحر ويطلقون على الجهة الأخرى العكسية ( قبلي ) أي باتجاه أسيوط والمنيا وبني سويف حيث يمتد الطريق منها الى الجيزة ثم القاهرة ، وأما مسميات المدن التي أوردها فهي تختلف في عصرنا هذا وأعتقد أن الفيومية هي محافظة الفيوم اليوم والأسيوطية هي محافظة أسيوط ( من أعرق محافظات مصر وهى عاصمة محافظات الصعيد ) ، أما القوصية التي أوردها المؤلف فمازالت ليومنا هذا تسمى باسمها وهي أحد المراكز التابعة لأسيوط وقد استقريت بين أهلها قرابة أسبــوع
واليك عزيزي القارئ هذه الخارطة لجمهورية مصر وانظر من بعد الجيزة وحتى أسوان ، كل هذا الذي يبدو في الخارطة هو الصعيد اضــغط هــنا
توجهت من القاهرة ومنها الى الجيزة لأستقل (عربيه مخصوص ) بيجو موديل 79 وبصحبتي أحد أصدقائي – عمل في السعودية سابقاً – وهو صعيدي متمدن وذو خلق رفيع، يقدم أهل بلده اليه بالقاهرة فيخدمهم ويدلهم على الدوائر الحكومية ومايحتاجون اليه ، وهذا واجب عليه في تقاليدهم ولو لم يخدم أحدهم ( تبقا مصيبه )
المهم أننا سرنا بطلب مني باتجاه الطريق الزراعي وكان الوقت عصراً مررنا على بني سويف ومنها الى المنيا التي يطلقون عليها ( عروس الصعيد ) ومنها الى أسيوط ولاتسأل عن الطريق فعرضه لايتجاوز السبعة أمتار ، واحذر أن تصيبك الدهشة حين تجد أحد عابري الطريق مطفئاً لجميع أنوار سيارته
فانك ستجد آخر ممسكاً لزمام عدد من الجواميس ويصطحبهن في عرض الطريق!! والآخر راكباً لحماره الذي يحمل مقطورة خلفه مليئة بمحصول هذا اليوم من انتاج مزرعته
أضف الى ذلك أن كل قرابة عشرين كيلو ستجد حواجز للتفتيش !
وصلنا أول مراكز أسيوط مركز ( القوصيه ) فاتجهنا لنجع نزالي جنوب ، بلد صاحبي هذا كان وصولنا قرابة الساعة الثانية ليلاً ، فأصريت على صاحبي ألانحل ضيوفاً على أهله الا في الصباح ، توقفنا عند مقهى من اثنين لا ثالث لهما في البلد ، وبمجرد معرفة صاحب المقهى أن القادم عباس ( صاحبي ) وبصحبته ضيف من السعودية ، شمر عن سواعد الكرم وقدم كل مابوسعه أن يقدمه( مشكوراً ) بعد أن حلف بالطلاق المغلض ثلاثاً ألا يأخذ قرشاً واحداً مقابل ماقدمه لنا ، والحلف بالطلاق عند أهل الصعيد عادة لا تستغربها ، فالغالبية العظمى يحلفون بالطلاق على أتفه الأسباب وقد تسمعها من شخص واحد أكثر من مرة خلال خمس دقائق ، وهذا ماجعلني أقول لهم مازحاً : أشك أن امرأة واحدة في الصعيد لازالت في عصمة زوجها
جلست منبهراً من هذا الهدوء وتلك البساطة المتناهية ، وقبل الفجر بقليل ابتدأ بين كل فينة وأخرى يخرج من شارع صغير بجوارنا أناس يركبون حميرهم وكل يصطحب معه بضاعته الى السوق بحكم أن اليوم هو الخميس وفيه يكون سوق البلد هذا كهل وآخر صبي تستغرب كيف استطاع أن يركب راحلته وهو بهذا الحجم ، وأخرى عجوز قد احدودبت من عمرعتياً صلينا الفجر ثم توجهنا الى بيت أهل صاحبي ، فأدخلونا بيتاً يعج بالكرم ولكنه يشكوا ضعف ذات اليد ( حاله حال الشريحة الكبرى في البلد ) ، أخذنا قسطاً من الراحة في غرفة لم تحتوي على رخام فاره ، وانما فرش متواضع لايفصلك عن تراب الأرض سواه ، والحيطان من الطوب فقط دون دهان أو نقوش ، صحينا بعد ذلك فخرجنا نجوب شوارع البلد ( بالطبع على قدمينا ) شوراع أرى فيها ماقاله جدي عن طبيعة حياتهم السابقة يتحول من خيال الى حقيقة شوارع بالكاد تعبر منها سيارة واحدة ، لا سفلتة أو رصف ، لاترى فيها وسيلة مواصلات سوى الحمير ( أعزكم الله ) سوى الطريق الرئيسي الذي يمر بالبلد ففيه سيارات والطريق معبد
اشتمل ذلك اليوم على عدة جولات داخل البلد ، ثم خرجنا خلف البلد حيث توجد الغيطان ( المزارع ) ، وبجوارها نهر جار – هو روعة ذلك البلد – من حيث النظافة والصفاء والعذوبه ( كل هذا وبرفقتي مايقرب من أربعة عشر رجلاً ) خرجوا بصحبة الضيف ( واجب الكرم ) وان حملت شيئاً من متاعك ولو كيساً صغيراً فستضع مضيفك في موقف لايحسد عليه ، حيث سينتشر في البلد أن فلانا ترك ضيفه يحمل متاعه – وتلك خطيئة لاتغتفر –
ابتدأت على ضفاف ذلك النهر ونحن في سويعات المغيب أطرح تساؤلات كثيرة صالت وجالت في خاطري عن الصعيد والصعايده ، ابتدأتها بالسؤال عن حقيقة الثأر ( وطخ النار ) فقالوا لي أن تلك عادة تكاد أن تنعدم في هذا العصر خلافاً للسابق حيث تنتشر انتشار النار في الهشيم ، الا أن الثأر لايزال في نجع عبد الرسول حيث قتل هذا اليوم اثنين بداعي الثأر ، ويؤشر أحدهم عليه من على الضفة الأخرى من النهر
ويقول : هناك ان كنت تنظر يوجد مزارع للبانجو ( نوع من المخدرات ) وخلفها البلد – نجع عبد الرسول – حاولت أن أخفي علامات الدهشة ، ثم سألته هل تزرع هنا المخدرات ، أجاب ضاحكاً يزرعون البانجو والأفيون والحشيش ( كله بيتزرع مش في نجع عبد الرسول وحده ، في المناطق دي كلها ) ولما غابت الشمس وصلي من صلى منا صلاة المغرب ، ابتدأت أكمل طرحي للأسئلة ، أين الدولة عن تلك المزارع ؟ وكان الجواب : هنا في الارياف مافيش حكومه ، الحكومه ماتقدرش تخش هنا !!
تواصلت الأسئلة وتعدد المجيبون ، وبعد العشاء ذهبنا الى منزل صاحبي هذا وكلي تساؤلات : هل هذا كل مافي الصعيد ؟ ، أناس أشبه مايكونوا بالبدو!! لايجيدون من الحديث سوى تعابير الترحيب لضيفهم ، ومن القيل والقال - مانراه في كل القرى -فلان فعل كذا ، وعلان نوى كذا ، وقد تصل أحياناً الى شتم الآخرين ، واحياء فتيل الغيبة والنميمة ، دونما مبرر حقيقي لذلك القول ، هل فعلاً الصعيد مثال للتخلف ؟؟ ورغم ماعتراني من الدهشة الا أن ماخلد في ذاكرتي شهامة ذلك الشعب وكرمه رغم بساطته وفقره ، أكملت باقي أيامي قريباً من هذا البلد نخرج نهاراً ببعض الأسلحة نتسلى بها في جبل قريب من البلد ونجوب هنا وهناك على النهر وداخل البلد ونخلد مبكراً في المساء للنوم
بعد أن لبيت ماجلست كل تلك الفترة لأجله وهو اصرار كل رب أسرة أن أحل ضيفاً عليه هذا اليوم !!
توجهت الى أسيوط وهي كماذكرت أكبر محافظة في الصعيد ، عندما دخلتها لم أصدق أنها تابعة للصعيد ، بل لم أتصور أن كل هذا لم يكن يفصلني عنه سوى ثلاثين كيلو تقريباً ، شاهدت جامعة أسيوط ، ومابها من مباني ومايتبعها من مستشفيات ، قال لي أحد العامة هذه الجامعة أنشأها الملك فيصل ، ، ثم تواصل الحديث عن دورها في تخريج الجماعات الاسلامية في أسيوط ، وكيف استطاع زكي بدر أن يسيطر عليهم لينال بعد ذلك وزارة الداخلية بعد أن كان محافظاً لأسيوط ، أخذنا جولة في اسيوط ، ورأيت الفارق بسيط بينها وبين القاهرة ، اللهم الا في عدد السكان وفي متطلبات السياح ، أقمنا في فندق بدر – وهو فندق مشهور في أسيوط يملكه زكي بدر – وصادفت شيخاً كبيراً وكغيره يندهش بمجرد معرفته أني سعودي ، فسألته هل زرت السعوديه فقال : عمري ماخرجت من أسيوط ، أتبعت ذلك بالسؤال عن سنه فقال : عمري سبعين سنه !!! ، لك أن تتخيل أن نماذج كثيرة مثله لم تخرج من مدينتهم منذ ولدوا ، ولك أن تتصور أيضاً كيف سيكون تصورهم للحياة بشكل عام ، ودعنا أسيوط وتوجهنا الى سوهاج ومنها الى قنا ، وأصبحنا نرى تطوراً تدريجياً بحكم قربنا من مناطق سياحية توقفنا في الأقصر ، لنصبح بعد ذلك سياح في أماكن سياحية وليس ضيوفاً في بيوت كرماء ومنها الى أسوان ( بوابة المحروسة من جهة الجنوب ) ، ماأروع الآثار والنيل في الأقصر وأسوان ، الا أن الحديث عنهما ليس بجديد ، انما الجديد كان في الريف خصوصاً ومنه خلصت الى التالي :
1-أنه وان كان الصعيد هو العمود الفقري للاقتصاد المصري كونها منطقة زراعية ، وكون كبار التجار المصريين من أصول صعيدية ، الا أن في الصعيد – خصوصاً في الارياف - من يعانون من فقر مدقع يجعلك تحس أن من يعيش في القاهرة يعيش في نعيم وراحه ، فضلاً عمن يعيش هنا في بلادنا فتحمد الله مراراً وتسأله أن يديم نعمته علينا وأن يرزقنا شكرها ولنسع لذلك حتى لاتزول كمازالت ممن كفروا بها من قبل
2-أن مايقال عن الصعيد والصعايده هو ليس على وجه التعميم فالصعيد خرجت لنا علماء على مر العصور كالإمام جلال الدين السيوطى والامام الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الجامع الأزهر الشريف ووالمفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور رشدي فكار ، كما خرجت لنا زعماء لو لم يكن منهم الا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لكفى ، كما خاطب وجداننا بأعذب القول وفصيحه أدباء عظام من الصعيد ، كالأديب مصطفى لطفي المنفلوطى ، و الأديب والفيلسوف العظيم عباس محمود العقاد ، والشاعر عبد الرحمن الأبنودى
الا أن هذا لا ينفي أن في الصعيد من تحس أنهم خارج دائرة هذا الزمن ، وهم بحق لايعرفون شيئاً قط عن هذه الدنيا سوى محيط حياتهم الروتيني اليومي ، وماقول أحدهم حينما ذكرت الانترنت قال لمن حوله : ياعمي دا اللي عنده انترنت يقدر يشوفك وانت نايم في أوضتك ( غرفتك ) وأقره الحضور ، ولم يعارضه أحد منهم ، فماهذا الا مثال على مثل تلك النماذج التي أعتقد أنها هي السبب في كل مايقال من النكت عن الصعايده
3-أن مايتفق تقريباً عليه أهل الصعيد هو كرم الضيافة واحترام الضيف والقيام بالواجب معه على أكمل وجه ، فالشكر لكل من أكرمني في رحلتي تلك والشكر موصول لكل من أكمل قراءة هذا السرد ، الذي ترددت كثيراً في طرحه كوني أحسسته غاية في الملل والطول ولكن الدافع كان بالدرجة الأولى عرض تلك الرحلة – بعد اختصارها قدر المستطاع - بأي طريقة كانت لتنتقوا منهاماهو مفيد ان وجدتم ذلك ، وترموا مالاتريدون في عرض البحر0
...... دمتم ودام عـزكـم ..
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ