على الرغم من (الغاغة) التى يثيرها اليوم فى مصر، نفرٌ من «الرجال» المتحدِّثين باسم الإله فى الأرض (لا يزيد عددهم على العشرة)، فإن الأمور التى تجمع بين المسلمين والمسيحيين فى هذا البلد، لا تزال أكثر بكثير من الأمور التى تفرِّقهم، ليس على مستوى الواقع المعيشى فحسب، وإنما أيضاً على مستوى التاريخ الطويل، المشترك، الذى صاغ عبر مئات السنين واقعنا المعاصر.. وقد أشرتُ إلى ذلك، بالتفصيل، فى محاضرةٍ عامةٍ عُقدت قبل سنوات قليلة فى مكتبة الإسكندرية، جمعت بين البابا شنودة وكاتب هذه السطور، وتحدث فيها «البابا» عن تاريخ كنيسته ومسيرته الرهبانية، بينما تحدثتُ عن حضور المسيحية فى التراث العربى الإسلامى.. وسوف أضع فيديو المحاضرة اليوم على صفحتى بالفيس بوك وموقعى على الإنترنت، ليعلم الناس ما كنا نقوله لإخواننا المسيحيين من كلام المحبة، قبل بضعة أعوام!وقبل بضعة أيام، هاجت النفوس بسبب التصريحات التى أدلى بها واحدٌ من هؤلاء «العشرة» الذين يظنون فى أنفسهم أنهم (لسان الإله) الناطقون بالحقيقة المطلقة، وما هم فى واقع الأمر إلا كائنات فكاهية، تحب إحداث «الهوسة» كل حين.. وبمناسبة (فكاهى، وهوسة) فإن فى فصيح اللغة العربية يقال عن الرجل أنه (فكه) و(فاكه) إذا كان يأكل الفاكهة كثيراً، وإذا كان ينال من أعراض الناس! وصاحبنا الفكاهى هذا، يفعل الأمرين، بإمعان، وليته يكتفى بالأمر الأول منهما ويرحم الناس من (البمب) الذى يطلقه فى وجوههم كل حين، حتى إنه لم يتورَّع عن وصف قرابة مليون إنسان مصرى بأنهم (والعياذ بالله) أولاد زنا، لأنهم لم يتزوَّجوا بالطريقة التى يراها هو شرعية!ولكن إخواننا «الإنجيليين» الذين وصفهم صاحبنا بهذه الصفة البشعة، أناسٌ طيبون عقلاء، يتعاملون مع مثل هذه المواقف بحسب ما أوصاهم به السيد المسيح، ويراعون وصايا المسيح وتعاليمه الداعية إلى المحبة (حتى للأعداء) ولذلك، فقد ترفَّعوا عن الردِّ على كلامه الوضيع.. أما كلمة «الهوسة» فمرادى منها ليس المعنى الفصيح المشتق من الهوس، وإنما المعنى العامىّ الذى يذكرنى بلغة (الهوسا) وهى إحدى اللغات، غير المفهومة لنا، التى يستعملها بعض سكان المنطقة الواقعة غرب الصحراء الإفريقية.وأعتقد أن وسائل الإعلام المصرية، إذا كَفَّتْ عن توجيه الأنظار نحو أقاويل هذا الشخص الفكاهى، أو عرضتها باعتبارها نوعاً من (الهوسا) الفكاهية أو النِّكات ثقيلة الظل، أو الفذلكات الفلسفية لشخصٍ لم يدرس الفلسفة، أو «نفسنة» سخيفة لرجل دين مسكين يظن فى نفسه الظنون ويتوهَّم الأوهام! إذا نظرنا لأقواله من هذه الزاوية، لكان ذلك أوفق لنا. لكن الأنسب فيما أرى لأقاويله الجوفاء هو أن تُهمل، حتى لا ينشغل الناسُ بها ويظنَّ بعضهم أنها كلام جاد، جاد به أحد المجتهدين السابحين فى أوهام القرن الخامس الميلادى.■ ■ ■فى القرن الخامس الميلادى، ظهرت فى مصر، بقوةٍ، مسألة البابوية كقضية مصيرية يموت بسببها البسطاء.. وفى القرن السابع الميلادى (الأول الهجرى) ظهرت مسألة الخلافة الإسلامية، التى أثرت بدورها فى تطور فكرة البابوية، وتأثرت بها، وفى هذا المقال، سوف نعكف على موضوع «الخلافة» ونشير إلى تطورها وارتباطها بالبابوية، وفى مقال الأسبوع القادم نعكف على موضوع «البابوية» ونشير إلى ارتباطها بالخلافة.. لنرى معاً كيف نتجت أوهامٌ مصرية عديدة (معاصرة) من هاتين الفكرتين القديمتين.الأصل فى (الخلافة) أنها مفهوم سياسى إسلامى، ذو طابع دينى. وأعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن اللفظة استُعملت منذ نشأة الدولة الإسلامية، للإشارة إلى نمطٍ من الحكم يختلف عن النظام الملكى. وقد ورد فى الحديث الشريف، أن رجلاً دخل على النبى فأخذته الهيبة وراحت ركبتاه ترتعدان (فى نص الحديث: أخذ تُرعد فرائصه) فطمأنه النبى بأن قال له: هوِّن عليك، فلستُ بملكٍ ولا جبار، أنا ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد.وفى السيرة النبوية، والقرآن الكريم، ورد أن زوجات النبى هُنَّ (أمهاتُ المؤمنين) وهو ما يدلُّ بشكل غير مباشر، على أن النبىَّ هو (أبو المؤمنين) وإلا لما صارت زوجاته أمهاتٍ لهم! وقد استقر فى الأذهان هذا المفهوم (الأبوى) للنبى، مع الممارسة العملية للسلطة. مع أن القرآن الكريم يقول صراحةً ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم لكن الانتماء الأبوى والقبلى فى العقلية العربية، وضع النبى فى مرتبة «الأب» للمؤمنين، وجعل زوجات كلِّ حاكم عربى حتى يومنا هذا، بمنـزلة أمهات لمعاصريه ! ولذلك لا يتزوَّج أى شخص، من أية زوجة تركها الحاكم العربى بالوفاة أو بالطلاق، مهما كانت صغيرة السن.. وبمناسبة الإشارة إلى «أمهات المؤمنين» الحقيقيات، لا بد هنا من لفت الأنظار إلى فجاجة انتقاد الجهلة للنبى محمد (ص) بسبب كثرة زوجاته، حسبما كان الأمر شائعاً فى الأزمنة القديمة! وفى الحقيقة، فإن زوجات النبى محمد (ص) أقل عدداً بكثير من زوجات أنبياء وشخصيات العهد القديم المقدس عند اليهود والمسيحيين، خاصةً داوود وسليمان. وأقل عدداً، بكثير، من «المحظيات» اللواتى حظى بهن ملوك مسيحيون أتقياء، أسهموا فى نشر الديانة المسيحية، بأنحاء الأرض، ومنهم «هرقل» الذى لم يقنع بزوجته وحريمه، وإنما (تزوَّج) أيضاً ابنة أخته مرتينة، تحت سمع وبصر أساقفة زمانه، ومباركة كثير منهم. مع أن ذلك كان، وسوف يظل، ممنوعاً فى الديانات الرسالية الثلاث: اليهودية، المسيحية، الإسلام.نعود إلى مفهوم «الخلافة» الذى ورد لفظه فى القرآن الكريم كصفة لعموم الإنسان.. قال تعالى: «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح»، و«يجعلكم خلفاء الأرض». ولكن الخلافة هنا مفهوم عام فى الإنسان المستخلف فى الأرض، ولا يراد بها تحديداً (المعنى السياسى) ولا اللقب الذى اتخذه الحكام المسلمون من بعد وفاة النبى.ولعل اختيار لقب (الخليفة) يرجع إلى كونه لفظة قرآنية، ترتبط بمفهومٍ للحكم يبتعد قدر الإمكان عن مفاهيم: الملك، الإمبراطور، القيصر، الشاه، كسرى.. وهى تسميات سلطوية ارتبطت فى أذهان المسلمين الأوائل بالعنجهية المؤدية إلى فساد أهل السلطة.ولذلك، خطب أول (الخلفاء) المسلمين «أبو بكر الصديق» فى الناس بعد توليه الأمر قائلاً: «لقد وُلِّيت عليكم (لاحظ أن الفعل مبنى للمجهول) ولستُ بخيركم، فأطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعةَ لى عليكم».. وهى عبارة معروفة، تدل على أن فكرة (العقد الاجتماعى) بين الحاكم والمحكوم، كانت واضحة فى أذهان المسلمين الأوائل، بشكلٍ تلقائىٍّ ومباشر. كما تدل على أن المسلمين الأوائل، تحاشوا متابعة النسق السلطوى العالمى (آنذاك) المتمثل فى دولتىْ الفرس والروم. وهما الدولتان اللتان نَخَرَ سوسُ السلطة عظامَهما، ومهَّد لتهاوى كل دولة منهما، بمجرد أن مسَّتها يدُ المسلمين العسكرية. ولهذا اعتبر الحكام المسلمون الأوائل (أى أخذوا العبرة) بسابقيهم ومعاصريهم، واختاروا لرأس الدولة الوليدة اسم (الخليفة) الذى يُحيل ضمناً إلى امتداد الأبوية النبوية فى شخص المتولِّى أمر المسلمين باعتبار أنه (يخلف) النبى فى الأمر.. وبهذا المعنى، كان الخلفاء الأربعة خلفاء للنبى فى الأرض، وحكاماً للمسلمين، يتحاشون فى حُكمهم البهرجة السلطوية. ثم تطور الأمر، حتى صار بحسب التعبير العربى القديم، والحديث الشريف مُلكاً عضوضاً أى ملكية يُعَضُّ عليها بالنواجذ. وهو ما ظهر واضحاً فى الخلافة الأموية، ومن بعدها الخلافة العباسية، ومن بعدها المحاولة البائسة التى قام بها المماليك فى مصر والشام لإحياء الخلافة العباسية بعد سقوط بغداد على يد هولاكو (سنة 656 هجرية) كى يكتسب المماليك الذين لم يَعرف الواحد منهم أباً (أولاد الناس) الشرعية السلطوية على اعتبار أنهم يمثلون الخليفة (الشكلى) الحبيس فى قلعة الجبلى بالقاهرة (المسماة اليوم: قلعة محمد على).وكانت آخر «خلافة» إسلامية هى تلك المسماة (الدولة العثمانية) التى عضَّت بالنواجذ على السلطة، حتى إن الخليفة العثمانى كان ليلة جلوسه على العرش، يقتل كل إخوته. ليضمن أنهم لن ينازعوه فى سلطانه، أو ينتزعوه منه! وقد قتل أحد سلاطين العثمانيين ثلاثة وعشرين أخاً له، فى ليلة واحدة.■ ■ ■وانتهت دولة العثمانيين بعدما تطرَّق إليها الفساد، وفقاً للقاعدة التى ذكرها «ابن خلدون» حين أكَّد أن البذخَ والترفَ، مقدمة لانهيار الدول. وقد قام «كمال أتاتورك» بخلع الخلافة، ثم أمعن فى طمس معالمها باسم (العلمانية) التى أنقذ بها تركيا من براثن التخلف العثمانى. وبينما كانت دولُ العالم تستفيق من آثار الحرب العالمية الأولى (وتستعد للحرب العالمية الثانية) كانت أمام الدول العربية مهامُّ ضخام للخروج من مأزق التخلف العربى، واللحاق بطفرة التقدم الأوروبى.. ولكن، بدلاً من توجيه الأنظار إلى هذه (المهمة الحضارية) انهمك الملوك المصريون والسعوديون فى الخلاف حول أحقية الملك فؤاد أو الملك سعود بالخلافة. وانقسم (العلماء) فى أواخر العشرينيات من القرن العشرين، ما بين مناصرٍ لهذا (الملك) أو ذاك، ثم ما لبث هؤلاء العلماء أن انهمكوا فى (النضال) حول أحقية كُلٍّ منهما بالخلافة المنحلَّة.. وعُقدت المؤتمرات فى القاهرة وفى الرياض، وتنازع الناس حتى فشلوا وذهبت ريحهم.ومع صدور كتاب «على عبد الرازق» الشهير (الإسلام وأصول الحكم) وهو الكتاب الذى أكَّد أن الخلافة ليست شرطاً لقيام دولة الإسلام. هاجت ضد مؤلفه نفوسُ المعارضين والمغرضين، وتعقبوا الرجل حتى جعلوا حياته جحيماً.. لكنه فى المقابل جعل حلمهم مستحيلاً! لأن الأوهام لا تستطيع الصمود طويلاً، إذا توجَّهت نحوها أنوارُ العقل والمنطق.ومع منتصف القرن العشرين، خرج معظم المسلمين من وهم (الخلافة) المؤيَّدة من السماء. وأسهمت الحكوماتُ العسكرية التى حكمت معظم البلاد العربية والإسلامية، فى القضاء على وَهْم (حُلم) إحياء الخلافة.. ونسى معظمُ الناس هذا الأمر، ولم يعد يحلم به أو يتوهَّمه إلا جماعاتٌ محدودة العدد، تهرب بوعيها من مشكلات الواقع بالتحليق فى سماء التوهُّمات، من غير اعتبار لحقيقةٍ بدهيةٍ. هى أن إقامة الخلافة الإسلامية اليوم، يقتضى أولاً تغيير نظام العالم أجمع كى يمكن قبول مثل ذلك النظام السياسى، ولا أظن أن أى جماعة من الحالمين بالخلافة، قادرةٌ على تغيير العالم.. والله سبحانه، أخبرنا بأنه لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم (قرآن كريم) ولم يقل تعالى: حتى يحلموا ويحلِّقوا فى الأوهام.■ ■ ■ومن المصريين، اليوم، بعض الحالمين بعودة الخلافة. ومن هؤلاء الطريقة الصوفية «العزمية» التى تربطنى بشيخها الحالى ومشايخها السابقين، روابطُ المحبة الروحية الموروثة من عالم الذَّرِّ. وهم ينادون بعودة «الخلافة الإسلامية» بنوعٍ من الحنين إلى الماضى المجيد، مع أن «الحنين» محض شعورٍ نبيل، ومع أن الماضى ليس كله مجيداً.وقد أراد الرئيسُ الراحل، أنور السادات، أن يجمع بين الحسنيين! فراح يعتكف بسيناء فى «وادى الراحة» ويُطلق على نفسه اسم «الرئيس المؤمن» متناسياً أنه رجل عسكرىٌّ فى الأساس، أو راغباً فى الجمع بين السلطتين العسكرية والروحية.. ولأنه «مؤمن» فقد أطلق من دون وعى، ماردَ الجماعات المتطرفة التى استوحت لنفسها من فكرة «الخلافة» فكرةَ «الإمارة» فصار لكل جماعة (إسلامية) أمير (جماعة إسلامية) ترى فى نفسها أنها فقط الإسلامية، وبقية المسلمين هراطقة!.. وما لبث الناسُ الذين أحسنوا الظن فى البداية بالجماعات الإسلامية (المتأسلمة) المتطرفة، أن اكتشفوا الحقيقة البسيطة القائلة إن هؤلاء المتأسلمين هم مجرد جماعة ساعية إلى السلطة، وإن هؤلاء «الأمراء» ليسوا «خلفاء»، وإنما أمراء إرهاب نسوا أن الدعوة الإلهية (القرآنية) كانت لإعداد العُدَّة لإرهاب «عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم» فإذا بهم يرهبون المسلمين والمسيحيين وعموم المصريين، فيفرح بإرهابهم لنا: عدو الله وعدونا وآخرون من دونهم لا نعلمهم.
أوهام المصريين (3-7) .. الخلافة والبابوية
طلعت شرموخ- المدير التنفيذي
- عدد المساهمات : 4259
تاريخ التسجيل : 09/10/2010
- مساهمة رقم 1
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ