محاكم التفتيش الكنسية في أسبانيا، وفظائعها ضد المسلمين بعد سقوط غرناطة
محاكم التفتيش هي تلك المحاكم، سيئة الصيت، التي تمثل أحد أسوأ فصول التاريخ الغربي بشكل عام، والأسباني بشكل خاص، دموية تجاه المسلمين، بعد سقوط غرناطة بأيدي المسيحيين الكاثوليك الأسبان عام 1492م. وذلك رغم اتفاقية التسليم المكونة من 60 بندا، والتي تعهد الأسبان فيها بتأمين المسلمين في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم ومساجدهم، ولغتهم وتراثهم وعاداتهم، وجميع حقوقهم..والتي وقع عليها الملك الأسباني، والبابا في روما.
وفيما يتعلق بمحاكم التفتيش فقد كان البابا سيكستيوس الرابع، قد أصدر قرارا بتأسيسها عام 1478، أي قبل سقوط غرناطة ببضعة عشر عاما، وذلك بناء على طلب من الملك الغادر فرديناند (ت1516)، ملك أسبانيا، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا (ت1504).
ولم تكن هذه المحاكم الكنسية، فريدة من نوعها في أسبانيا، وإنما كانت امتدادا لـ«محاكم التفتيش البابوية» التي كانت قد تأسست في أوربا عام 1231 على يد البابا جريجوري التاسع (1227-1241)، لملاحقة الهراطقة والسحرة والمشعوذين وغيرهم. وظهرت أول محكمة تفتيش كنسية أسبانية، في إشبيلية عام 1480م، ثم ظهرت المحاكم تباعا في عدد من المدن الإسبانية حتى بلغ عددها أربع عشرة محكمة.
وقد انصب الاهتمام الرئيس لمحاكم التفتيش الأسبانية في هذه المرحلة على مطاردة اليهود المتنصرين، الذين نُظر إليهم كهراطقة، ولم ينظر لهم كمسيحيين مخلصين، ولم تمس اليهود الذين لم ينتصروا، إلا أنه كان من ضمن أهدافها الحقيقية، أبتزاز أموال هؤلاء اليهود، وإجبارهم على إخراج ما يخفونه من ثروات وكنوز، لكي يقرضوها للخزينة العامة الأسبانية، التي كانت بحاجة ماسة إليها لاستخدامها في تغطية نفقات حربها ضد المسلمين في غرناطة. وفعلا لعب اليهود دورا كبيرا في تمويل تلك الحرب ضد المسلمين وضد مملكة غرناطة الصغيرة..وبعد ذلك تم مجازاتهم جزاء سنمار، فكانوا أول المضطهدين والمعرضين لوحشية محاكم التفتيش، ثم المطرودين من أسبانيا في نهاية المطاف. وعندها ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولم يجدوا أحدا يحتضنهم سوى المسلمين في المغرب، ودولة الخلافة العثمانية.
وبعد ذلك، أي بعد سقوط مملكة غرناطة، جاء دور المسلمين الذين آثروا البقاء في أوطانهم في الأندلس، ولم يغادروها كغيرهم. فقد أطلق الأسبان على هؤلاء المسلمين الذين غلبوا على أمرهم، منذ ذلك التاريخ اسم الموريسكيين (Moriscos)، ومعناه الأندلسيين القادمين من المغرب العربي والساكنين في أسبانيا.
وهو - أي مصطلح الموريسكيين - بحسب تعريف ليفي بروفنسال في الطبعة الأولى من «موسوعة الإسلام» «اسم يُطلق في إسبانيا على المسلمين الذين بقوا في البلاد بعد أن استولى الملكان الكاثوليكيان فرديناند وايز ابيلا على غرناطة يوم 2 يناير عام 1492 بعد زوال حكم آخر أمراء بني نصر».
وأما في «معجم الأكاديمية الملكية الإسبانية» فذكر أن كلمة «الموريسكي»: «تطلق على المغاربيين الذين بقوا وتعمّدوا بعداستعادة إسبانيا».
يذكر التعريف الأخير ميزة الموريسكيين الأساسية، وهي أنهم تعمّدوا بوصفهم مسيحيين. وإن لم يحدث ذلك التعميد استناداً إلى إرادة حرة من جانبهم.
وقد جاء الإعلان عن تشكيل محكمة التفتيش في غرناطة، في إطار خطة مبرمجة ومنظمة هدفها الأساسي هو التخلص من الإسلام كدين، بتنصير من بقي من أتباعه في أسبانيا، وقطع الصلة بينهم وبين تراثهم وتاريخهم، أو طردهم من البلاد، وإلغاء الإرث العربي الإسلامي الأندلسي، بالإقناع والترغيب حينا، وبالعنف والبطش والتنكيل، في اغلب الأحيان، وبحيث لايبقى على ظهر هذه الأرض سوى المسيحية «الكاثوليكية» تحديدًا. وبذلك يتم تحقيق الوحدة الدينية المنشودة لأسبانيا، ومن ثم تحقيق الوحدة السياسية، لارتباطها الوثيق بالوحدة الدينية، فمن يُشك في ولائه لإسبانيا لا ثقة بانتمائه إلى الكاثوليكية.
وكانت محاكم التفتيش هذه، بزعامة الكاردينال المتحجر القلب «فرانسيسكو خمينيث دي سيسنيرو»، المقرب من الملكة إيزابيلا ، التي عاشت في جو علماء الدين، والمستولي على عواطفها الدينية، وبموجب ذلك أصبح خمينيث هو المفتش الأعظم، الذي أنيط به أن يحمي حق المسيح على الأرض.
وقد وصل الكاردينال خمنيث إلى غرناطة في يوليو 1499م / 905هـ، وهو يضطرم حماسة لسحق دين محمد، ولمطاردة المسلمين وتنصيرهم. لكنه ابتدأ مهمته بفتح حوار ديني مع فقهاء المسلمين، لإقناعهم بالتنصر، إلا أن هذا الأسلوب، لم يلبث حتى انتهى بالفشل. بل أن نتائجه قد جاءت صاعقة على أم رأس الكاردينال والملكة أيزيبلا والملك فرناندو والبا. وكان ذلك إيذانا في الشروع في تطبيق سياسة التنصير الإجباري للمسلمين في غرناطة وسواها من حواضر الأندلس، من خلال محكمة التفتيش.
وهكذا سلطوها عليهم بقسوة أعضائها والمحقيين فيها، وتحجر قلوبهم، وتجردهم من الضمير، ومن كل سمة إنسانية، وتعصبهم وحقدهم الشديد على الإسلام وأهله، وأيضا بوحشية أساليبها وهمجيتها وفظاعتها في التحقيق والتعذيب، والتي لم يعرف لها التاريخ مثيلا، إلا ما قام به الأسبان أنفسهم، وفي الفترة نفسها، مع هنود أمريكا الحمر، حتى قضوا على 90% منهم. وما قام به الأمريكان مؤخرا - ولا يزالون - في سجون أبي غريب في العراق وجوانتناموا في كوبا، وقاعدة باجرام الجوية في أفغانستان، وغيرها من السجون السرية والعلنية التي خصصتها الولايات المتحدة الأمريكية، والحكومات الموالية لها للمجاهدين.
وقد ألفت محاكم التفتيش في هذه الفئة المستضعفة، المغلوبة على أمرها، أخصب ميدان لنشاطها، فأخضعتهم لرقابتها الدائمة، وجعلتهم شغلها الشاغل، فصادرت أموالهم، وأبتزتهم أقذر ابتزاز، وانتهكت أعراضهم، واستعبدت أطفالهم، وقطعت آذانهم، ونكلت بهم أشد تنكيل، وسامتهم سوء العذاب، وعلقتهم على أعواد المشانق، وأقامت لهم المحارق الجماعية، وملأت منهم سجونها المظلمة والعفنة، التي ترتع فيها الأفاعي والجرذان، والحشرات، وتنتشر فيها الأوبئة. وتفننت في مراقبتهم ومطاردتهم، وفي أساليب تعذيبهم وإرهاقهم جسديا ومعنويا، وماديا، وبصورة تدمي القلوب وتفطر الأكباد، وتبرأ منها شريعة الوحوش. وكانت تنظر لهم كعنصر دخيل، وكورم معد خبيث، ينبغي استئصاله أو اجتثاثه من جذوره وعروقه ودون أي هوادة أو رحمة. وقامت في إرهاقهم وإبادتهم بأعظم دور، وتركت في مأساتهم أعمق الأثر، وأسبغت عليها صبغتها الأليمة المفجعة، ولم ينج من وحشيتها المفرطة طفلاً أو شيخاً أو امرأة، حتى صار مجرد ذكر اسم هذا الديوان يثير الرعب والفزع.
ومن قوانين محكمة التفتيش والإجراءات التي كانت تتخذها نذكر ما يلي مثلاً:
1- أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته، ومن الأفضل أن يحكم على مائة بريء من أن ينجو من العقاب مذنب واحد. وعلى أي حال فنادرا ما حكمت محاكم التفتيش بالبراءة لمتهم، لكن هذا المتهم وإن خرج بريئا فإنه يعيش بقية حياته معاقاً محطماً بسبب التعذيب الذي تعرض له، وعندما يخرج يجد أن أمواله قد صودرت، ويعيش منبوذاً؛ لأن الآخرين يخافون التعامل معه، أو التحدث إليه؛ خوفاً من أن يكون مراقباً من محاكم التفتيش، فتلصق بهم نفس التهم التي ألصقت به.
2- تكتفي المحكمة بشهادة واحد أو اثنين من المخبرين السريين لتوجيه تهمة الهرطقة إلى أي إنسان (حتى ولو كان الشاهد من أصحاب السوابق). وكان مجرد الشبهة فيهم من مزراب حمام جار، أو همس وشاية أو أراق منسية أو عدم الصلاة في الكنيسة، يكفي لتحويلهم إلى ديوان التفتيش.
3- تظل أسماء المخبرين سرية، ويتقاضون مكافآت مادية (من أموال ضحاياهم) وروحية (حيث وعدتهم الكنيسة بدخول الجنة).
4- كان المتهم الذي يمثل أمام محكمة التفتيش يخضع لاختبار أولي، وهو أن يشرب كؤوساً من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعرض عليه لحم الخنزير، ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتم التأكد من المتهم أنه غير متمسك بالدين الإسلامي وأوامره، ولكن هذا الامتحان لا يكون عادة إلا خطوة أولى يسيرة جداً إزاء ما ينتظر المتهم من رحلة طويلة جداً من التعذيب.
5- كان التعذيب مرحلة مهمة من مراحل التحقيق. وتقشعر الأبدان مما ترويه المصادر عن أشكاله و أدواته، بل كانت تُزهق أرواح الكثيرين منهم تحت التعذيب نتيجة الألم والخوف والإرهاق.
6- كانت ذرية المحكوم تتحمل «تبعات» جريمته حيث يُحرم أبناؤه وأحفاده من وظائف ومهن كثيرة. كما تُصادر أملاكهم ويعيشون حياة العوز، بل كان بعضهم يمارس التوسل والدعارة أحياًنا للحصول على لقمة العيش في حين يتمتع الملك ورجال المحكمة بممتلكاته الموروثة.
7- وكان من صلاحيات محاكم التفتيش القبض على الأبرياء دون حرج، ومطاردتهم لأدنى شبهة، وتقديمهم للتحقيق والتعذيب والمحاكمة، دونما حاجة لتوافر البيّنة أو الأدلة القاطعة، ومن إجراءاتها أيضا اقتحام منازل المشتبه بهم للتفتيش فيها على مصحف مخبأ ، أو أي أثر من شعائر المسلمين، مع استجواب الأطفال القصر، وسؤالهم إن كانوا يرون آباءهم أو أمهاتهم يصلون أو يقرؤون القرآن، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية، ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر المحققين من أقوى الأدلة على الردة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب، وكانوا يفتشون عن عورة الصبي، أو الرجل فإن وجدوه مختونا علموا أنه مسلم، فبطشوا بأهله وبزوجته وبأبنائه بأشد أنواع البطش والفتك. وكان بعض المحققين في بعض الأحيان يقرون اغتصاب البنات والزوجات وغير ذلك من وسائل الضغط والظلم الفظيع الذي يجري باسم التحقيق الكنسي المقدس وبماركته وفي ظله.
7- ومن غرائب قوانين محاكم التفتيش أنها لم تكتف بمحاكمة المتهمين الأحياء، وإنما كانت تعاقب الأموات والغائبين أيضًا، فإذا اكتشفت أن أحد الأموات كان يمارس الهرطقة في حياته، فإنها تقوم بعمل تماثيل لهم أو تستخراج ما تبقي من جثثهمفي القبور لكي تنفذ فيها عقوبة الحرق مثلهم مثل الأحياء، ويتم ذلك في احتفال ديني، وتصادر ممتلكاتهم وتحرم ورثتهم منها. وكان يُمنح الوشاة الذين بلغوا عن الهراطقة الموتى نسبة عالية من هذه الممتلكات مكافأة لهم.
وأما الأساليب التي كانت تتبعها محاكم التفتيش في تعذيب المسلمين وعقابهم أثناء مدة التحقيق، فكانت تبدأ بالجلد علنا، والتجويع التدريجي للمتهم ، حتى يصبح نحيلاً غير قادر على الحركة، ومن ثم الكي بالنار، وحرق الأقدام بالفحم المشتعل، ثم تتطور إلى أساليب غاية في الوحشية والفظاعة، ومنها:
- تعذيب بالماء: وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلم، وربط ساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات.
- تعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن والعجز.
- سحق العظام بالآت ضاغطة، وتمزيق الأرجل وفسخ الفك.
- تعذيب ( الجاروكا): وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقا، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه.
وغيرها من الوسائل الهمجية المثيرة التي لا تخطر على البال.
وبعد انتهاء التعذيب، يحمل المتهم ممزقا داميا إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التي توجه إليه لأول مرة.
وبعد مدة من التحقيق يسام فيها المتهم سوء العذاب، كان الحكم عادة ما يصدر بالإدانة، وكانت العقوبات على المتهمين تختلف حسب الإثم المرتكب، ومن أبسطها السجن لمدة محدودة مع الغرامة إذا كان الذنب خفيفًا، أو التجديف مدى الحياة بالسفن إلى القارة الأمريكية، أو السجن المؤبد مع مصادرة الممتلكات. وكانت أشد العقوبات الإعدام بحرق المتهم حياً في احتفال عام يتم في ساحة المدينة. ويشهد الاحتفال كبار رجال الدين بأثوابهم الرسمية. وكان بعض الملوك من هواة حضور هذا الاحتفال أمثال فرديناند. ويُحدد موعد هذا الاحتفال عادةً، بحيث يتزامن مع الاحتفال باعتلاء العرش أو زيارة الملك أو زواجه. وكان يهرع الشعب إلى ساحة المدينة لرؤية موكب المحكوم عليهم وهم في طريقهم إلى المحارق، وأحيانا كانت تنفذ هذه العقوبة بشكل جماعي مهما بلغ عدد المدانين.
وكان يشترط في المحققين في هذه المحاكم أن يكونوا متقدين حماسة لسحق طائفة محمد، وأن يتمتعوا بقلوبٍ متحجرة وأفئدة قاسية بحيث لا تضعف أمام التوسلات والتضرعات التي يظهرها بعض المتهمين بالهرطقة.
محاكم التفتيش هي تلك المحاكم، سيئة الصيت، التي تمثل أحد أسوأ فصول التاريخ الغربي بشكل عام، والأسباني بشكل خاص، دموية تجاه المسلمين، بعد سقوط غرناطة بأيدي المسيحيين الكاثوليك الأسبان عام 1492م. وذلك رغم اتفاقية التسليم المكونة من 60 بندا، والتي تعهد الأسبان فيها بتأمين المسلمين في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم ومساجدهم، ولغتهم وتراثهم وعاداتهم، وجميع حقوقهم..والتي وقع عليها الملك الأسباني، والبابا في روما.
وفيما يتعلق بمحاكم التفتيش فقد كان البابا سيكستيوس الرابع، قد أصدر قرارا بتأسيسها عام 1478، أي قبل سقوط غرناطة ببضعة عشر عاما، وذلك بناء على طلب من الملك الغادر فرديناند (ت1516)، ملك أسبانيا، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا (ت1504).
ولم تكن هذه المحاكم الكنسية، فريدة من نوعها في أسبانيا، وإنما كانت امتدادا لـ«محاكم التفتيش البابوية» التي كانت قد تأسست في أوربا عام 1231 على يد البابا جريجوري التاسع (1227-1241)، لملاحقة الهراطقة والسحرة والمشعوذين وغيرهم. وظهرت أول محكمة تفتيش كنسية أسبانية، في إشبيلية عام 1480م، ثم ظهرت المحاكم تباعا في عدد من المدن الإسبانية حتى بلغ عددها أربع عشرة محكمة.
وقد انصب الاهتمام الرئيس لمحاكم التفتيش الأسبانية في هذه المرحلة على مطاردة اليهود المتنصرين، الذين نُظر إليهم كهراطقة، ولم ينظر لهم كمسيحيين مخلصين، ولم تمس اليهود الذين لم ينتصروا، إلا أنه كان من ضمن أهدافها الحقيقية، أبتزاز أموال هؤلاء اليهود، وإجبارهم على إخراج ما يخفونه من ثروات وكنوز، لكي يقرضوها للخزينة العامة الأسبانية، التي كانت بحاجة ماسة إليها لاستخدامها في تغطية نفقات حربها ضد المسلمين في غرناطة. وفعلا لعب اليهود دورا كبيرا في تمويل تلك الحرب ضد المسلمين وضد مملكة غرناطة الصغيرة..وبعد ذلك تم مجازاتهم جزاء سنمار، فكانوا أول المضطهدين والمعرضين لوحشية محاكم التفتيش، ثم المطرودين من أسبانيا في نهاية المطاف. وعندها ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولم يجدوا أحدا يحتضنهم سوى المسلمين في المغرب، ودولة الخلافة العثمانية.
وبعد ذلك، أي بعد سقوط مملكة غرناطة، جاء دور المسلمين الذين آثروا البقاء في أوطانهم في الأندلس، ولم يغادروها كغيرهم. فقد أطلق الأسبان على هؤلاء المسلمين الذين غلبوا على أمرهم، منذ ذلك التاريخ اسم الموريسكيين (Moriscos)، ومعناه الأندلسيين القادمين من المغرب العربي والساكنين في أسبانيا.
وهو - أي مصطلح الموريسكيين - بحسب تعريف ليفي بروفنسال في الطبعة الأولى من «موسوعة الإسلام» «اسم يُطلق في إسبانيا على المسلمين الذين بقوا في البلاد بعد أن استولى الملكان الكاثوليكيان فرديناند وايز ابيلا على غرناطة يوم 2 يناير عام 1492 بعد زوال حكم آخر أمراء بني نصر».
وأما في «معجم الأكاديمية الملكية الإسبانية» فذكر أن كلمة «الموريسكي»: «تطلق على المغاربيين الذين بقوا وتعمّدوا بعداستعادة إسبانيا».
يذكر التعريف الأخير ميزة الموريسكيين الأساسية، وهي أنهم تعمّدوا بوصفهم مسيحيين. وإن لم يحدث ذلك التعميد استناداً إلى إرادة حرة من جانبهم.
وقد جاء الإعلان عن تشكيل محكمة التفتيش في غرناطة، في إطار خطة مبرمجة ومنظمة هدفها الأساسي هو التخلص من الإسلام كدين، بتنصير من بقي من أتباعه في أسبانيا، وقطع الصلة بينهم وبين تراثهم وتاريخهم، أو طردهم من البلاد، وإلغاء الإرث العربي الإسلامي الأندلسي، بالإقناع والترغيب حينا، وبالعنف والبطش والتنكيل، في اغلب الأحيان، وبحيث لايبقى على ظهر هذه الأرض سوى المسيحية «الكاثوليكية» تحديدًا. وبذلك يتم تحقيق الوحدة الدينية المنشودة لأسبانيا، ومن ثم تحقيق الوحدة السياسية، لارتباطها الوثيق بالوحدة الدينية، فمن يُشك في ولائه لإسبانيا لا ثقة بانتمائه إلى الكاثوليكية.
وكانت محاكم التفتيش هذه، بزعامة الكاردينال المتحجر القلب «فرانسيسكو خمينيث دي سيسنيرو»، المقرب من الملكة إيزابيلا ، التي عاشت في جو علماء الدين، والمستولي على عواطفها الدينية، وبموجب ذلك أصبح خمينيث هو المفتش الأعظم، الذي أنيط به أن يحمي حق المسيح على الأرض.
وقد وصل الكاردينال خمنيث إلى غرناطة في يوليو 1499م / 905هـ، وهو يضطرم حماسة لسحق دين محمد، ولمطاردة المسلمين وتنصيرهم. لكنه ابتدأ مهمته بفتح حوار ديني مع فقهاء المسلمين، لإقناعهم بالتنصر، إلا أن هذا الأسلوب، لم يلبث حتى انتهى بالفشل. بل أن نتائجه قد جاءت صاعقة على أم رأس الكاردينال والملكة أيزيبلا والملك فرناندو والبا. وكان ذلك إيذانا في الشروع في تطبيق سياسة التنصير الإجباري للمسلمين في غرناطة وسواها من حواضر الأندلس، من خلال محكمة التفتيش.
وهكذا سلطوها عليهم بقسوة أعضائها والمحقيين فيها، وتحجر قلوبهم، وتجردهم من الضمير، ومن كل سمة إنسانية، وتعصبهم وحقدهم الشديد على الإسلام وأهله، وأيضا بوحشية أساليبها وهمجيتها وفظاعتها في التحقيق والتعذيب، والتي لم يعرف لها التاريخ مثيلا، إلا ما قام به الأسبان أنفسهم، وفي الفترة نفسها، مع هنود أمريكا الحمر، حتى قضوا على 90% منهم. وما قام به الأمريكان مؤخرا - ولا يزالون - في سجون أبي غريب في العراق وجوانتناموا في كوبا، وقاعدة باجرام الجوية في أفغانستان، وغيرها من السجون السرية والعلنية التي خصصتها الولايات المتحدة الأمريكية، والحكومات الموالية لها للمجاهدين.
وقد ألفت محاكم التفتيش في هذه الفئة المستضعفة، المغلوبة على أمرها، أخصب ميدان لنشاطها، فأخضعتهم لرقابتها الدائمة، وجعلتهم شغلها الشاغل، فصادرت أموالهم، وأبتزتهم أقذر ابتزاز، وانتهكت أعراضهم، واستعبدت أطفالهم، وقطعت آذانهم، ونكلت بهم أشد تنكيل، وسامتهم سوء العذاب، وعلقتهم على أعواد المشانق، وأقامت لهم المحارق الجماعية، وملأت منهم سجونها المظلمة والعفنة، التي ترتع فيها الأفاعي والجرذان، والحشرات، وتنتشر فيها الأوبئة. وتفننت في مراقبتهم ومطاردتهم، وفي أساليب تعذيبهم وإرهاقهم جسديا ومعنويا، وماديا، وبصورة تدمي القلوب وتفطر الأكباد، وتبرأ منها شريعة الوحوش. وكانت تنظر لهم كعنصر دخيل، وكورم معد خبيث، ينبغي استئصاله أو اجتثاثه من جذوره وعروقه ودون أي هوادة أو رحمة. وقامت في إرهاقهم وإبادتهم بأعظم دور، وتركت في مأساتهم أعمق الأثر، وأسبغت عليها صبغتها الأليمة المفجعة، ولم ينج من وحشيتها المفرطة طفلاً أو شيخاً أو امرأة، حتى صار مجرد ذكر اسم هذا الديوان يثير الرعب والفزع.
ومن قوانين محكمة التفتيش والإجراءات التي كانت تتخذها نذكر ما يلي مثلاً:
1- أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته، ومن الأفضل أن يحكم على مائة بريء من أن ينجو من العقاب مذنب واحد. وعلى أي حال فنادرا ما حكمت محاكم التفتيش بالبراءة لمتهم، لكن هذا المتهم وإن خرج بريئا فإنه يعيش بقية حياته معاقاً محطماً بسبب التعذيب الذي تعرض له، وعندما يخرج يجد أن أمواله قد صودرت، ويعيش منبوذاً؛ لأن الآخرين يخافون التعامل معه، أو التحدث إليه؛ خوفاً من أن يكون مراقباً من محاكم التفتيش، فتلصق بهم نفس التهم التي ألصقت به.
2- تكتفي المحكمة بشهادة واحد أو اثنين من المخبرين السريين لتوجيه تهمة الهرطقة إلى أي إنسان (حتى ولو كان الشاهد من أصحاب السوابق). وكان مجرد الشبهة فيهم من مزراب حمام جار، أو همس وشاية أو أراق منسية أو عدم الصلاة في الكنيسة، يكفي لتحويلهم إلى ديوان التفتيش.
3- تظل أسماء المخبرين سرية، ويتقاضون مكافآت مادية (من أموال ضحاياهم) وروحية (حيث وعدتهم الكنيسة بدخول الجنة).
4- كان المتهم الذي يمثل أمام محكمة التفتيش يخضع لاختبار أولي، وهو أن يشرب كؤوساً من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعرض عليه لحم الخنزير، ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتم التأكد من المتهم أنه غير متمسك بالدين الإسلامي وأوامره، ولكن هذا الامتحان لا يكون عادة إلا خطوة أولى يسيرة جداً إزاء ما ينتظر المتهم من رحلة طويلة جداً من التعذيب.
5- كان التعذيب مرحلة مهمة من مراحل التحقيق. وتقشعر الأبدان مما ترويه المصادر عن أشكاله و أدواته، بل كانت تُزهق أرواح الكثيرين منهم تحت التعذيب نتيجة الألم والخوف والإرهاق.
6- كانت ذرية المحكوم تتحمل «تبعات» جريمته حيث يُحرم أبناؤه وأحفاده من وظائف ومهن كثيرة. كما تُصادر أملاكهم ويعيشون حياة العوز، بل كان بعضهم يمارس التوسل والدعارة أحياًنا للحصول على لقمة العيش في حين يتمتع الملك ورجال المحكمة بممتلكاته الموروثة.
7- وكان من صلاحيات محاكم التفتيش القبض على الأبرياء دون حرج، ومطاردتهم لأدنى شبهة، وتقديمهم للتحقيق والتعذيب والمحاكمة، دونما حاجة لتوافر البيّنة أو الأدلة القاطعة، ومن إجراءاتها أيضا اقتحام منازل المشتبه بهم للتفتيش فيها على مصحف مخبأ ، أو أي أثر من شعائر المسلمين، مع استجواب الأطفال القصر، وسؤالهم إن كانوا يرون آباءهم أو أمهاتهم يصلون أو يقرؤون القرآن، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية، ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر المحققين من أقوى الأدلة على الردة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب، وكانوا يفتشون عن عورة الصبي، أو الرجل فإن وجدوه مختونا علموا أنه مسلم، فبطشوا بأهله وبزوجته وبأبنائه بأشد أنواع البطش والفتك. وكان بعض المحققين في بعض الأحيان يقرون اغتصاب البنات والزوجات وغير ذلك من وسائل الضغط والظلم الفظيع الذي يجري باسم التحقيق الكنسي المقدس وبماركته وفي ظله.
7- ومن غرائب قوانين محاكم التفتيش أنها لم تكتف بمحاكمة المتهمين الأحياء، وإنما كانت تعاقب الأموات والغائبين أيضًا، فإذا اكتشفت أن أحد الأموات كان يمارس الهرطقة في حياته، فإنها تقوم بعمل تماثيل لهم أو تستخراج ما تبقي من جثثهمفي القبور لكي تنفذ فيها عقوبة الحرق مثلهم مثل الأحياء، ويتم ذلك في احتفال ديني، وتصادر ممتلكاتهم وتحرم ورثتهم منها. وكان يُمنح الوشاة الذين بلغوا عن الهراطقة الموتى نسبة عالية من هذه الممتلكات مكافأة لهم.
وأما الأساليب التي كانت تتبعها محاكم التفتيش في تعذيب المسلمين وعقابهم أثناء مدة التحقيق، فكانت تبدأ بالجلد علنا، والتجويع التدريجي للمتهم ، حتى يصبح نحيلاً غير قادر على الحركة، ومن ثم الكي بالنار، وحرق الأقدام بالفحم المشتعل، ثم تتطور إلى أساليب غاية في الوحشية والفظاعة، ومنها:
- تعذيب بالماء: وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلم، وربط ساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات.
- تعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن والعجز.
- سحق العظام بالآت ضاغطة، وتمزيق الأرجل وفسخ الفك.
- تعذيب ( الجاروكا): وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقا، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه.
وغيرها من الوسائل الهمجية المثيرة التي لا تخطر على البال.
وبعد انتهاء التعذيب، يحمل المتهم ممزقا داميا إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التي توجه إليه لأول مرة.
وبعد مدة من التحقيق يسام فيها المتهم سوء العذاب، كان الحكم عادة ما يصدر بالإدانة، وكانت العقوبات على المتهمين تختلف حسب الإثم المرتكب، ومن أبسطها السجن لمدة محدودة مع الغرامة إذا كان الذنب خفيفًا، أو التجديف مدى الحياة بالسفن إلى القارة الأمريكية، أو السجن المؤبد مع مصادرة الممتلكات. وكانت أشد العقوبات الإعدام بحرق المتهم حياً في احتفال عام يتم في ساحة المدينة. ويشهد الاحتفال كبار رجال الدين بأثوابهم الرسمية. وكان بعض الملوك من هواة حضور هذا الاحتفال أمثال فرديناند. ويُحدد موعد هذا الاحتفال عادةً، بحيث يتزامن مع الاحتفال باعتلاء العرش أو زيارة الملك أو زواجه. وكان يهرع الشعب إلى ساحة المدينة لرؤية موكب المحكوم عليهم وهم في طريقهم إلى المحارق، وأحيانا كانت تنفذ هذه العقوبة بشكل جماعي مهما بلغ عدد المدانين.
وكان يشترط في المحققين في هذه المحاكم أن يكونوا متقدين حماسة لسحق طائفة محمد، وأن يتمتعوا بقلوبٍ متحجرة وأفئدة قاسية بحيث لا تضعف أمام التوسلات والتضرعات التي يظهرها بعض المتهمين بالهرطقة.
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ