محمود حداد *
هناك نظريتان - أسطورتان، واحدة ثقافية والثانية سياسية - عسكرية،
تتحدثان عن السبب الذي يقف وراء ما يسمى بالانحطاط الثقافي العربي -
الإسلامي في القرون الوسطى بعد فترة الازدهار الذهبي التي كان مركزها بغداد
في الفترة العباسية. وترجع النظرية الثقافية هذا السبب إلى الفكر الديني
للإمام أبي حامد الغزالي (ت 1111م) المعبر عنه أفضل تعبير في كتابه «تهافت
الفلاسفة» الذي كان، بحسب هذه النظرية، مسؤولاً عن انسداد الأفق أمام
الفكرين العلميين، العربي والإسلامي، منذ العصر الوسيط حتى العصر الحديث.
ويستنتج كثيرون من المثقفين من نجاح الفكر الديني المتوافق مع التصوف عند
الغزالي، إنّ هذا النجاح أدّى حتماً إلى وفاة نظيره الفكر العلمي العقلاني.
وبالتالي، تمّ تحميل الغزالي مسؤولية انحطاط الفكر العلمي العقلاني في
الحضارة الإسلامية في هذه العصور اللاحقة.
أمّا النظرية الثانية، فقد نظرت إلى التاريخ الإسلامي من ناحية سياسية
أو سياسوية - عسكرية، ووصفته بأنه توالي سلالات ومعارك من دون الانتباه إلى
التاريخ الفكري. وكان هولاكو الشخص الكريه الذي حُمّل مسؤولية انحطاط
العلم في الحضارة الإسلامية بعد تدميره بغداد عام 1258 في انطلاقه من آسيا
الوسطى لاحتلال بقية العالم. استخدم الأشخاص الذين لاموا هولاكو على موت
العلم الإسلامي، الأخبار المحفوظة في المصادر التاريخية في شكل حرفي، والتي
كانت تتناول أحداث الغرب في مناطق المماليك التي لم تكن محتلّة من قبل
المغول. تتحدّث تلك المصادر التاريخية عن مياه نهر دجلة التي تحوّل لونها
إلى الأسود بسبب حبر المخطوطات التي رماها الفاتح البربري في النهر. وتمثّل
هذه الأخبار مشهد دمار ما زال في ذاكرة معظم العرب والمسلمين بعامة على
أنه المصيبة القصوى ومثال البربرية.
يعارض هاتين الفكرتين الواسعتي الانتشار جورج صليبا، أستاذ العلوم
الإسلامية في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه الأخير «الحضارة
الإسلامية والنهضة الأوروبية» Islamic Science and the making of the
European Renaissance
( ويتفق جيم الخليلي في كتابه «الرواد: العصر الذهبي للعلم العربي»
Pathfinders: The Golden Age of Arab Science مع رأي صليبا وإن كان لا
يقدم المستوى نفسه من الجهد البحثي والتحليلي).
تشدد هاتان الفكرتان اللتان عرضناهما على تحميل سبب انحطاط العلم
الإسلامي إما إلى نموذج الصراع بين الدين والعلم المستورد من أوروبا، أو
إلى الضربة القاتلة التي وجّهها الغزالي إلى الفلاسفة، إلى درجة تأثير تلك
المقاربات في شكل مؤذ في قراءة النصوص العلمية التي كتبت قبل وبعد الغزالي
في آن معاً.
غير أنّ مستشرقي القرن التاسع عشر أنفسهم أنكروا متعجلين النصوص العلمية
المكتوبة بعد الغزالي. لم يتكبّد أحد عناء التحقّق من نوع العلم الذي كانت
تحتويه هذه النصوص حتى وقت قريب جداً. هذا يعني أنّ هذه النصوص نادراً ما
كانت تقرأ هذا إذا ما كانت قد قرئت أصلاً.
سمح تاريخاً وفاة الغزالي عام 1111 ونكبة بغداد عام 1258 بتحوّل الأول
إلى اعتبار التاريخ الفكري كشفاً للفكر الديني، والثاني إلى اعتباره سلسلة
من الأحداث السياسية. لا عجب إذاً من أنّ معظم الأشخاص يستنتجون بسهولة أنّ
هذين القرنين المصيريين، القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر، ساهما في
انحطاط الحضارة الإسلامية ومعها انحطاط العلم في شكل عام. وتنطبق هذه
الخلاصة على الأشخاص الذين قالوا إنّهم لم يشهدوا في القرون اللاحقة ظهور
المدارس الفقهية الإسلامية التي لم تكن تشبه إطلاقاً المدارس الأربع التي
ظهرت في القرنين السابع والثامن. كما أنها تنطبق على الأشخاص الذين لم
يعودوا يرون استمرارية للخلافة الإسلامية بعد سقوط بغداد.
كان القرن الثالث عشر بهذا المعنى قرناً مصيرياً بالفعل، إذ شهد اختفاء
نظام الخلافة الذي كان ناجحاً حتى ذلك الوقت. أمّا بالنسبة للتاريخ
الثقافي، فتقترح المصادر العلمية التي لا تزال متوافرة سيناريو مختلفاً إذ
تعتبر أنّ القرن الثالث عشر كان عصر ازدهار الفكر العلمي المبدع. والأهم،
أنها كانت تدعم الادعاء بأنّ اختفاء نظام الخلافة سياسياً كان بمثابة نعمة
مقنّعة. لم تؤدّ خسارة هذا النظام إلى انتهاء النشاط العلمي، بل فتحت مراكز
إنتاج في العواصم الأقل أهمية على مثال: دياربكر وأصفهان ودمشق والقاهرة
التي استمرّت كلها بإنتاج أعمال علمية ممتازة.
باختصار، يقول صليبا إن أيّاً من قصص عصر الانحطاط، لا تفسر كمية
الإنتاج العلمي الكبيرة بعد وفاة الغزالي، وبعد خراب بغداد على يد المغول.
لكن إذا ركّز المرء على حقل علم الفلك تحديداً، يجد أنه يصعب تحديد سبب
الانحطاط وفقاً لإحدى الروايتين. كما لا بد من الإشارة إلى أن «عصر
الانحطاط» كان في الواقع العصر الذهبي لعلم الفلك الذي استمر من القرن
الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر.
انتقاد الرواية الكلاسيكية
ويضيف المؤلف أنه إذا تبنّينا تفسير الانحطاط وفقاً لإحدى الروايتين
الكلاسيكيتين، فإننا نواجه مشاكل لن تُحلّ بسهولة. في الحالة الأولى، يكون
الأشخاص الذين يحمّلون الغزالي مسؤولية عصر الانحطاط، مضطرين لتفسير إنتاج
عشرات علماء الفلك مثلاً والذين استمروا بإنتاج النصوص العلمية التي كانت
متفوقة من نواح عديدة على النصوص المنتجة قبل زمن الغزالي. أمّا في حالة
علم الفلك، فلا يمكننا أن نقارن حتى تطوّر النصوص ما قبل الغزالي بالنصوص
التي كانت بعده، لأنّ النصوص الأخيرة كانت في الواقع أفضل من حيث التطور
الرياضي النظري، كما أظهر الخفري ( ت 1550)، وأفضل في دمج علم الفلك الرصدي
بعلم الفلك النظري كما أظهر ابن الشاطر (ت 1375). ويمكن توثيق إنتاج مميز
مماثل بسهولة أيضاً في هندسة الميكانيك والطب وعلم البصريات، هذا إن لم
نذكر شيئاً عن تضافر جهود علماء الفلك الذين عملوا جميعاً بعد القرن الثالث
عشر والذين كانوا يهدفون إلى دفع حدود النظريات الفلكية باتجاه مجال علم
الفلك البديل أو «علم الفلك الجديد» كما اقترح ابن الشاطر.
فلنأخذ أيضاً مثالاً أعمال ابن النفيس (ت. 1288) في الطبّ، حيث نجد في
تعليقه على قانون ابن سينا ملاحظة لافتة لا تنطلق من تعاليم هذا الأخير
فحسب، علماً أنه كان معجباً كثيراً به، لكنه انتقد مصدر ابن سينا الأساسي
وهو جالينوس اليوناني. بالتالي، دحض ابن النفيس عقائد جالينوس على أساس
أرصاده الخاصة، ووضع أساس اكتشاف دوران الدم في الرئتين. ويبدو أنّ العلماء
اكتسبوا ثقة كبيرة في فترة ما بعد الغزالي لتحدي أسلافهم ومهاجمة الإرث
اليوناني الأساسي، من خلال نقد هؤلاء الأسلاف، كالقول «هذا هو الرأي
المشهور وهو عندنا باطل». هذه أصداء لـ ابن الهيثم (ت. 1049) والعرضي (ت.
1266) والطوسي (ت. 1274) وغيرهم من الذين قالوا في مرحلة من المراحل: «هذا
هو الرأي المشهور وهو عندنا باطل». ويعكس ابن النفيس في هذا المجال النزعة
نفسها التي كانت تتطور في علم الفلك والتي كانت أصلاً متجذّرة في أعمال
الرازي قبله بحوالى أربعة قرون. ويبدو أيضاً أنه كان يمدح أعمال علماء
آخرين من حقول أخرى كانوا مساهمين في إعادة إحياء ثقافي بعيداً عن عصر
انحطاط.
كما ينبغي أخذ عمل كمال الدين الفارسي (ت. 1320) ، الذي يظهر النزعة
نفسها مجدداً لكن من حقل علم البصريّات، في الاعتبار. اقترح أستاذ الفارسي
قطب الدين الشيرازي (ت. 1311) عليه أن يدرس عمل العالم البارع ابن الهيثم
(ت. 1038) من فترة ما قبل الغزالي. تنبغي الإشارة إلى أنّه لم ينصحه
بالعودة إلى الوراء وصولاً إلى علم البصريات اليوناني القديم في دراسته، بل
طلب منه منافسة أحدث وأفضل إنتاج مكتوب حول الموضوع.
أثر سقوط بغداد
أمّا بالنسبة إلى أولئك الذين يعتبرون التاريخ سلسلة من الأحداث
التاريخية فقط، ومجموعة سلالات وحروب من دون الاكتراث بالتاريخ الثقافي،
فهم يجدون بعض الراحة في الاعتماد في شكل كبير على غزو المغول لبغداد
لتبرير نظرية الانحطاط. وعلى الرغم من أنّ هولاكو هو من دمر بغداد فعلاً،
فإنّ وزيره كان في الواقع عالم الفلك نصير الدين الطوسي (ت. 1274) وهو
الذي دفعته حكمته إلى إنقاذ حوالى 400 ألف مخطوطة قبل نهب بغداد. كما أنه
أنقذ شاباً يدعى إبن الفوطي وأخذه إلى ما بات يعرف بحصن الإلخانيين قرب
تبريز، حيث أقنع الطوسي نجل مدمّر بغداد، على تلّة تقع على طرف مدينة مراغة
القريبة، بمنحه الدعم الكافي لإنشاء أحد أكثر مراكز الرصد التي عرفها
العالم الإسلامي تطوراً.
وساعد الطوسي اهتداء الإلخانيين إلى الإسلام الذي مكنه من جمع أفضل
علماء الفلك في مدينة مراغة، فأدّى جمع علماء فلك مماثلين في مركز ناشط
كهذا ومجهّز بمكتبة جديدة من المخطوطات التي أنقذت من بغداد ومناطق عراقية
وسورية أخرى، إضافة إلى كون ابن الفوطي أمين المكتبة، إلى إنتاج أكثر
النظريات الفلكية تعقيداً وتطوراً في كلّ العصور الإسلامية. قدّم بعضهم
مساهماته قبل أن يأتي إلى مرصد مراغة، تماماً كما فعل الطوسي حين اقترح
نظريته الرياضية الجديدة، المعروفة بـ «مزدوجة الطوسي». وينطبق الأمر نفسه
على العرضي الذي أكمل عمله الفلكي الأكثر شهرة ومقدمته حين كان لا يزال في
دمشق. غير أنّ اجتماعهما في مراغة أنتج نوعاً معيناً من علم الفلك، استطاع
الشيرازي نشره من خلال استهلال سلسلة من الحوارات مع علماء الفلك السابقين
قوامها تراكم التعليقات، وحين كتب تعليقين طويلين للغاية خلال عشرين سنة من
بناء مرصد مراغة.
الأهم هو أنه يجدر بنا أن نتذكر أنّ تأسيس مرصد مراغة بدأ العمل به عام
1259؛ أي بعد سنة تحديداً على تدمير بغداد. كان العرضي هو المهندس الذي بنى
الأدوات، وهو على الأرجح من بنى التراكيب، بما أنّ معظمها كانت تراكيب
آلات رصد فلكية.
من هنا، فإنّ كلتا روايتي الانحطاط، اللتين تنسبان موت العلم العربي
إمّا إلى نجاح فكر الغزالي الديني، أو إلى تدمير بغداد على يد المغول، لا
تفسران الإنتاج العلمي اللامع الذي ذكرناه للتو. إضافة إلى ذلك، وفي ضوء ما
نعرفه، لا يبدو أنّ هذين السببين أبطآ إنتاج العلم، أو حدّدا عمر
الانحطاط، إذ يمكننا أن نجادل بأنّ الحقبة اللاحقة شهدت تزايداً في الإنتاج
العلمي وتحسّناً في نوعيته، لدرجة أنّ الإنتاج في فترة ما قبل الغزالي
يبدو أكثر تواضعاً بكثير بالنسبة له. وقد ناقشت سابقاً أنّه ينبغي أن نعتبر
أنّ العصر الذهبي لعلم الفلك، أقلّه في ما خصّ إنتاج النظريات الفلكية،
بدأ في فترة ما بعد الغزالي.
وعلى أي حال، فإن هناك من التفاصيل والتدقيقات التي تجعل من مفهوم
الانحطاط مفهوماً نسبياً. بل كان الأمر أمر استمرار التراكم، مع انتقال
مراكز العلم والتقدم العلمي تبعاً لتغير الظروف.
* كاتب وأستاذ جامعي لبناني
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ