إعادة فتح الإسكندرية (25 هـ/ 645 م)
لم يكد عبد الله بنسعد بن أبي سرح يستقر في ولاية مصر حتى غدر الروم فيها، وكتب الروم من أهلالإسكندرية إلى الإمبراطور قسطنطين بن هرقل يصفون له ما كانوا عليه من الذلة،ويهوّنون عليه فتح الإسكندرية لقلة من كان بها من حامية المسلمين، فأنفذ قسطنطينقائده الأرمني "مَنَويل" إلى الإسكندرية على رأس جيش كثيف، فاستولىعليها، وأخذ هو وجنده، ومن انضم إليهم من الروم المقيمين في الوجه البحري يعيثونفي هذه البلاد حتى بلغوا مدينة نقيوس. ولميرحب القبط بعودة بلادهم إلى الروم يسومونهم الخَسْف لمظاهرتهم العرب المسلمين،ورضائهم عن حكمهم من جهة، ولمَا كان بينهم وبين الروم من الخلاف المذهبي من جهةأخرى؛ ولهذا كتب القبط إلى الخليفة عثمان يلحون في إسناد حروب الروم إلى عمرو بنالعاص، لما كسبه في حروبه معهم من خبرة، فولى عثمان عَمْرًا الإسكندرية وعهد إليهبحرب الروم، وإخراجهم من مصر. وفيمدينة نقيوس دار القتال بين جند "عمرو" وجند "منويل" في البروالنهر، وكثر الترامي بالنُّشَّاب حتى عقر فرس عمرو فنزل عنه، ثم خرجوا من النهرفاجتمعوا هم والذين في البر، فنضحوا المسلمين بالنُّشَّاب، فاستأخر المسلمون عنهمشيئًا، وحملوا على المسلمين حملة ولَّى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سُمَيّ فيخيله. شدالمسلمون على الروم فكانت هزيمتهم، فطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتحالله عليهم وقُتل مَنَويل الخَصِيّ، وأمعن عمرو بن العاص y في قتلهم، فكُلِّمَ في ذلك فأمر برفع السيوفعنهم، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدًا، وهو المسجد الذي بالإسكندريةويقال له: الرحمة، وإنما سُمِّيَ الرحمة لرفع عمرو بن العاص السيف هنالك. وكانفتح الإسكندرية الثاني عَنْوة وقسرًا في خلافة عثمان بن عفان yسنة 25 هـ، أما فتحها الأول فقد كان في سنة 21 هـ. وقدارتبط بفتح الإسكندرية قضية حساسة أثارها بعض المتأخرين من المؤرخين، ألا وهيإحراق مكتبة الإسكندرية. براءة المسلمين من تهمة إحراق مكتبة الإسكندرية
لقد خاض بعض المتأخرينمن المؤرخين في مسألة مكتبة الإسكندرية، وناقش هذه القضية كثير من المستشرقين مثلجبون وبتلر وسديولوت وغيرهم، ولكنهم لم يجزموا فيها برأي، وارتاب بعضهم في صحةتهمة إحراق هذه المكتبة التي وُجِّهَت إلى عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بنالخطاب. ويجزمالدكتور جوستاف لوبون في "حضارة العرب" (ص 213) بخرافة القصة:"وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عاداتالعرب والمسلمين، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماءالأعلام زمنًا طويلاً؟! وهذه القصة دحضت في زماننا، فلا نرى أن نعود إلى البحثفيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت -بما لدينا من الأدلة الواضحة- أن النصارى هم الذينأحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح الإسلامي". وكذلكجاك.س .ريسلر (في ص 100/ 101 من الحضارة العربية) اعتبر: حريق الإسكندرية أسطورة.وإذا رجعنا إلى المؤرخين المعاصرين للفتح الإسلامي لمصر مثل "أوتيخا"الذي وصف فتح مصر بإسهاب، فلن نجد ذكرًا لهذه التهمة. كماأنهالم ترد في كتب الأقدمين: كاليعقوبي، والبلاذري، وابن عبد الحكم، والطبري،والكندي، ولا في تاريخ من جاء بعدهم وأخذ منهم: كالمقريزي، وأبي المحاسن،والسيوطي، وغيرهم. وأولمن نسب الحريق إلى عمرو بن العاص هو عبد اللطيف البغدادي (629هـ/ 1231م)، ومن بعدهابن القفطي (646هـ/ 1248م)، ثم أوردها أبو الفرج غريغوريوس الملطي (وهو ابنالعبري) دون ذكر السند، ودلل المؤرخون الذين أخذوا عن هؤلاء حديثًا - على هذاالأمر بما يلي: الدليل الأول: بأن المسلمين كانت لهم رغبة عظيمة في محو كلكتاب غير القرآن والسنة. الدليل الثاني: أن رواية الحريق لم يروها أبو الفرجفقط، بل رواها أيضًا مؤرخان مسلمان: البغدادي وابن القفطي. الدليل الثالث: أن المسلمين الفاتحين أحرقوا كتبالفرس، كما ذكر حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون. والرابع: بأن إحراق الكتب كانأمرًا معروفًا وشائعًا، يتشفَّى به كل مخالف ممن خالفه في رأيه، كما عمل هولاكوالتتري سنة 656هـ بإلقاء خزائن الكتب في دجلة. ونحن نجيب بأن:
الدليل الأول: غير مُسَلَّم به؛ لأنه المعروف من أخلاقالمسلمين أنهم كانوا يشجعون العلم، بدليل ما ذكره أبو الفرج من أن عمرو بن العاصكان يُصغِي إلى أقوال يوحنا النحوي. والدليل الثاني: وهو أن أبا الفرج لم يروِ هذه الرواية وحده،بل رواها أيضًا البغدادي وابن القفطي، وهما مؤرخان إسلاميان عظيمان، فيمكن دحضهبما سنورده - بعد قليل - في مناقشة ما ذكره أبو الفرج لأنهم عاشوا في عصر واحد،وروايتهم واحدة تقريبًا، ولا يبعد أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن مصدر ضائع معادٍللعرب والإسلام. والدليل الثالث: لم نَرَ من المؤرخين من ذكره إلا حاجي خليفة،ومثل هذا المؤرخ لا يُؤخَذُ بكلامه ولا يعول عليه في المسائل التاريخية المقدمة؛لأنه توفي سنة (1067هـ/ 1657م)؛ فلو أن المسلمين أحرقوا هذه المكاتب لذكر ذلكالمؤرخون الذين تقدموا حاجي خليفة. والدليل الرابع: لا يثبت دعواهم؛ لأنه لا يقاس هولاكو بعمر بنالخطاب، ولا يقاس من جاء ليحصد الحضارات عامة، بمن قام بنشر الحضارة في العالم. وقدأسهب بعض المؤرخين المحدثين في تفنيد رواية الإحراق، لا سيما رواية أبي الفرج،وذكروا ما يدل على أن عَمْرًا وعُمر بريئان مما نسب إليهما. وهذه هي رواية أبيالفرج عن كيفية الحريق على يد عمرو بن العاص، قال: "كانفي وقت الفتح رجل اكتسب شهرة عظيمة عند المسلمين يسمى بيحيى المعروف عندنا"بغرماطيقوس" أي النحوي، وكان إسكندريًّا، وعاش إلى أن فتح عمرو بنالعاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو وسمعمن ألفاظه الفلسفية -التي لم تكن للعرب بها أنسة- ما هاله ففتن به. وكانعمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه، ثم قال له يحيىيومًا: إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية، وختمت على كل الأشياء الموجودة بها، فما لكبه انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وماالذي تحتاج إليه؟ قال: كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية. فقال له عمرو: لايمكنني أن آمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرفهقول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها مايوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلاحاجة إليه فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندريةوإحراقها في مواقدها، فاستنفدت في ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب". تفنيد الحجج حول رواية الإحراق
-هذه الرواية أشبه بالخرافة، فقد ذكر فيها ابن العبري أن كتب المكتبة كفت أربعةآلاف حمَّام - وهي عدد حمامات الإسكندرية كما ذكرها ابن العبري - لمدة ستة أشهر،وهذا غير معقول، فضلاً أن عَمْرًا لو قصد تدمير المكتبة لأحرقها في الحال ولميتركها تحت رحمة أصحاب الحمامات، وإلا لتمكن يوحنا النحوي -الذي بنى ابن العبريروايته عليه- من أخذ ما يلزم من هذه الكتب بثمن بخس، ولتسرب قسم كبير من الكتبليظهر فيما بعد، وهذا ما لم يحدث. -كما ذكر "بتلر" أن يوحنا هذا مات قبل الفتح الإسلامي لمصر بثلاثين أوأربعين سنة. -لو كانت هذه الرواية صحيحة، لتعرض لها المتقدمون من قريب أو بعيد ولو تليمحًا. -إن هذه المكتبة أصابها الحريق مرتين: الأولى سنة 48 ق.م على أثر إحراق أسطول يوليوسقيصر، والثانية في عهد القيصر تيودوسيس (738 – 395م) وذلك عام 391م؛ فنسجت هذهالحكاية على منوال الحريقين السابقين. -زار "أورازيوس" الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي، فذكر أنرفوف المكتبة خالية من الكتب عند زيارته؛ وعلى ذلك فإن الكتب التي كانت بالمكتبةمن عهد البطالمة لم يبق لها أثر منذ أواخر القرن الرابع الميلادي، أي منذ عهدالإمبراطور تيودوسيس -أي الحريق الثاني- كما أنه لم يرد لها ذكر في الآداب فيالقرنين السادس والسابع، ومن المعلوم أن حالة مصر قبيل الفتح الإسلامي –أي منذأيام دقلديانوس- كانت حالة تأخر الزراعة والصناعة والعلوم والمعارف والآداب، فمنالبعيد -إذن- أن يهتم الناس بإعادة هذه المكتبة إلى عهدها الأول. -إن التعاليم الإسلامية تخالف رواية القصة؛ لأن الإسلام يحرم المساس بالكتبالسماوية كاليهودية والمسيحية، لأنه يجوز أن ينتفع المسلمون بها، فالرواية مخالفةلعادات المسلمين الذين عُرف عنهم عدم التعرض لما فيه ذكر الله. -ولو فرضنا أن هذه المكتبة بقيت إلى الفتح الإسلامي، ولم يكن هناك ما يمنع من نقلهاإلى القسطنطينية على أيدي الروم في أثناء الهدنة التي عقدت مع المسلمين، وقد أجازلهم عمرو في عهد الصلح أن يحملوا كل ما يقدرون عليه، وكان لديهم من الوقت مايمكّنهم من نقل مكتبات لا مكتبة واحدة. -وقد أنهى أبو الفرج روايته بقوله: "فاسمع ما جرى واعجب". وهذا يعني أنهأراد أن يدعونا إلى إحكام العقل بأنه ليس من الممكن أن يفعل عُمر وعَمْرو هذا،وهذا ما لا يريده؛ فكأنما يوحي لنا بكذب الخبر، وإن لم يكن كذلك فلِمَ يقول: اسمعواعجب؟! هذه فكرة، وفكرة أخرى يحملها المعنى، وهي أن يكون في نفس المؤلف ضغينة علىعُمر وعَمرو، فنسب إليهما هذه الفِرْية، وهو يدعونا إلى التعجب من شدة هذا الأمر. وعلىكلا الأمرين، فإن إثارة العجب والدعوة إلى الاستماع فيها شيء من الإيحاء وعدمالنزاهة، ويجعل ما سبق من الخبر فِرْية لا صحة لها.
لم يكد عبد الله بنسعد بن أبي سرح يستقر في ولاية مصر حتى غدر الروم فيها، وكتب الروم من أهلالإسكندرية إلى الإمبراطور قسطنطين بن هرقل يصفون له ما كانوا عليه من الذلة،ويهوّنون عليه فتح الإسكندرية لقلة من كان بها من حامية المسلمين، فأنفذ قسطنطينقائده الأرمني "مَنَويل" إلى الإسكندرية على رأس جيش كثيف، فاستولىعليها، وأخذ هو وجنده، ومن انضم إليهم من الروم المقيمين في الوجه البحري يعيثونفي هذه البلاد حتى بلغوا مدينة نقيوس. ولميرحب القبط بعودة بلادهم إلى الروم يسومونهم الخَسْف لمظاهرتهم العرب المسلمين،ورضائهم عن حكمهم من جهة، ولمَا كان بينهم وبين الروم من الخلاف المذهبي من جهةأخرى؛ ولهذا كتب القبط إلى الخليفة عثمان يلحون في إسناد حروب الروم إلى عمرو بنالعاص، لما كسبه في حروبه معهم من خبرة، فولى عثمان عَمْرًا الإسكندرية وعهد إليهبحرب الروم، وإخراجهم من مصر. وفيمدينة نقيوس دار القتال بين جند "عمرو" وجند "منويل" في البروالنهر، وكثر الترامي بالنُّشَّاب حتى عقر فرس عمرو فنزل عنه، ثم خرجوا من النهرفاجتمعوا هم والذين في البر، فنضحوا المسلمين بالنُّشَّاب، فاستأخر المسلمون عنهمشيئًا، وحملوا على المسلمين حملة ولَّى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سُمَيّ فيخيله. شدالمسلمون على الروم فكانت هزيمتهم، فطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتحالله عليهم وقُتل مَنَويل الخَصِيّ، وأمعن عمرو بن العاص y في قتلهم، فكُلِّمَ في ذلك فأمر برفع السيوفعنهم، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدًا، وهو المسجد الذي بالإسكندريةويقال له: الرحمة، وإنما سُمِّيَ الرحمة لرفع عمرو بن العاص السيف هنالك. وكانفتح الإسكندرية الثاني عَنْوة وقسرًا في خلافة عثمان بن عفان yسنة 25 هـ، أما فتحها الأول فقد كان في سنة 21 هـ. وقدارتبط بفتح الإسكندرية قضية حساسة أثارها بعض المتأخرين من المؤرخين، ألا وهيإحراق مكتبة الإسكندرية. براءة المسلمين من تهمة إحراق مكتبة الإسكندرية
لقد خاض بعض المتأخرينمن المؤرخين في مسألة مكتبة الإسكندرية، وناقش هذه القضية كثير من المستشرقين مثلجبون وبتلر وسديولوت وغيرهم، ولكنهم لم يجزموا فيها برأي، وارتاب بعضهم في صحةتهمة إحراق هذه المكتبة التي وُجِّهَت إلى عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بنالخطاب. ويجزمالدكتور جوستاف لوبون في "حضارة العرب" (ص 213) بخرافة القصة:"وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عاداتالعرب والمسلمين، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماءالأعلام زمنًا طويلاً؟! وهذه القصة دحضت في زماننا، فلا نرى أن نعود إلى البحثفيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت -بما لدينا من الأدلة الواضحة- أن النصارى هم الذينأحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح الإسلامي". وكذلكجاك.س .ريسلر (في ص 100/ 101 من الحضارة العربية) اعتبر: حريق الإسكندرية أسطورة.وإذا رجعنا إلى المؤرخين المعاصرين للفتح الإسلامي لمصر مثل "أوتيخا"الذي وصف فتح مصر بإسهاب، فلن نجد ذكرًا لهذه التهمة. كماأنهالم ترد في كتب الأقدمين: كاليعقوبي، والبلاذري، وابن عبد الحكم، والطبري،والكندي، ولا في تاريخ من جاء بعدهم وأخذ منهم: كالمقريزي، وأبي المحاسن،والسيوطي، وغيرهم. وأولمن نسب الحريق إلى عمرو بن العاص هو عبد اللطيف البغدادي (629هـ/ 1231م)، ومن بعدهابن القفطي (646هـ/ 1248م)، ثم أوردها أبو الفرج غريغوريوس الملطي (وهو ابنالعبري) دون ذكر السند، ودلل المؤرخون الذين أخذوا عن هؤلاء حديثًا - على هذاالأمر بما يلي: الدليل الأول: بأن المسلمين كانت لهم رغبة عظيمة في محو كلكتاب غير القرآن والسنة. الدليل الثاني: أن رواية الحريق لم يروها أبو الفرجفقط، بل رواها أيضًا مؤرخان مسلمان: البغدادي وابن القفطي. الدليل الثالث: أن المسلمين الفاتحين أحرقوا كتبالفرس، كما ذكر حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون. والرابع: بأن إحراق الكتب كانأمرًا معروفًا وشائعًا، يتشفَّى به كل مخالف ممن خالفه في رأيه، كما عمل هولاكوالتتري سنة 656هـ بإلقاء خزائن الكتب في دجلة. ونحن نجيب بأن:
الدليل الأول: غير مُسَلَّم به؛ لأنه المعروف من أخلاقالمسلمين أنهم كانوا يشجعون العلم، بدليل ما ذكره أبو الفرج من أن عمرو بن العاصكان يُصغِي إلى أقوال يوحنا النحوي. والدليل الثاني: وهو أن أبا الفرج لم يروِ هذه الرواية وحده،بل رواها أيضًا البغدادي وابن القفطي، وهما مؤرخان إسلاميان عظيمان، فيمكن دحضهبما سنورده - بعد قليل - في مناقشة ما ذكره أبو الفرج لأنهم عاشوا في عصر واحد،وروايتهم واحدة تقريبًا، ولا يبعد أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن مصدر ضائع معادٍللعرب والإسلام. والدليل الثالث: لم نَرَ من المؤرخين من ذكره إلا حاجي خليفة،ومثل هذا المؤرخ لا يُؤخَذُ بكلامه ولا يعول عليه في المسائل التاريخية المقدمة؛لأنه توفي سنة (1067هـ/ 1657م)؛ فلو أن المسلمين أحرقوا هذه المكاتب لذكر ذلكالمؤرخون الذين تقدموا حاجي خليفة. والدليل الرابع: لا يثبت دعواهم؛ لأنه لا يقاس هولاكو بعمر بنالخطاب، ولا يقاس من جاء ليحصد الحضارات عامة، بمن قام بنشر الحضارة في العالم. وقدأسهب بعض المؤرخين المحدثين في تفنيد رواية الإحراق، لا سيما رواية أبي الفرج،وذكروا ما يدل على أن عَمْرًا وعُمر بريئان مما نسب إليهما. وهذه هي رواية أبيالفرج عن كيفية الحريق على يد عمرو بن العاص، قال: "كانفي وقت الفتح رجل اكتسب شهرة عظيمة عند المسلمين يسمى بيحيى المعروف عندنا"بغرماطيقوس" أي النحوي، وكان إسكندريًّا، وعاش إلى أن فتح عمرو بنالعاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو وسمعمن ألفاظه الفلسفية -التي لم تكن للعرب بها أنسة- ما هاله ففتن به. وكانعمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه، ثم قال له يحيىيومًا: إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية، وختمت على كل الأشياء الموجودة بها، فما لكبه انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وماالذي تحتاج إليه؟ قال: كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية. فقال له عمرو: لايمكنني أن آمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرفهقول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها مايوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلاحاجة إليه فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندريةوإحراقها في مواقدها، فاستنفدت في ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب". تفنيد الحجج حول رواية الإحراق
-هذه الرواية أشبه بالخرافة، فقد ذكر فيها ابن العبري أن كتب المكتبة كفت أربعةآلاف حمَّام - وهي عدد حمامات الإسكندرية كما ذكرها ابن العبري - لمدة ستة أشهر،وهذا غير معقول، فضلاً أن عَمْرًا لو قصد تدمير المكتبة لأحرقها في الحال ولميتركها تحت رحمة أصحاب الحمامات، وإلا لتمكن يوحنا النحوي -الذي بنى ابن العبريروايته عليه- من أخذ ما يلزم من هذه الكتب بثمن بخس، ولتسرب قسم كبير من الكتبليظهر فيما بعد، وهذا ما لم يحدث. -كما ذكر "بتلر" أن يوحنا هذا مات قبل الفتح الإسلامي لمصر بثلاثين أوأربعين سنة. -لو كانت هذه الرواية صحيحة، لتعرض لها المتقدمون من قريب أو بعيد ولو تليمحًا. -إن هذه المكتبة أصابها الحريق مرتين: الأولى سنة 48 ق.م على أثر إحراق أسطول يوليوسقيصر، والثانية في عهد القيصر تيودوسيس (738 – 395م) وذلك عام 391م؛ فنسجت هذهالحكاية على منوال الحريقين السابقين. -زار "أورازيوس" الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي، فذكر أنرفوف المكتبة خالية من الكتب عند زيارته؛ وعلى ذلك فإن الكتب التي كانت بالمكتبةمن عهد البطالمة لم يبق لها أثر منذ أواخر القرن الرابع الميلادي، أي منذ عهدالإمبراطور تيودوسيس -أي الحريق الثاني- كما أنه لم يرد لها ذكر في الآداب فيالقرنين السادس والسابع، ومن المعلوم أن حالة مصر قبيل الفتح الإسلامي –أي منذأيام دقلديانوس- كانت حالة تأخر الزراعة والصناعة والعلوم والمعارف والآداب، فمنالبعيد -إذن- أن يهتم الناس بإعادة هذه المكتبة إلى عهدها الأول. -إن التعاليم الإسلامية تخالف رواية القصة؛ لأن الإسلام يحرم المساس بالكتبالسماوية كاليهودية والمسيحية، لأنه يجوز أن ينتفع المسلمون بها، فالرواية مخالفةلعادات المسلمين الذين عُرف عنهم عدم التعرض لما فيه ذكر الله. -ولو فرضنا أن هذه المكتبة بقيت إلى الفتح الإسلامي، ولم يكن هناك ما يمنع من نقلهاإلى القسطنطينية على أيدي الروم في أثناء الهدنة التي عقدت مع المسلمين، وقد أجازلهم عمرو في عهد الصلح أن يحملوا كل ما يقدرون عليه، وكان لديهم من الوقت مايمكّنهم من نقل مكتبات لا مكتبة واحدة. -وقد أنهى أبو الفرج روايته بقوله: "فاسمع ما جرى واعجب". وهذا يعني أنهأراد أن يدعونا إلى إحكام العقل بأنه ليس من الممكن أن يفعل عُمر وعَمْرو هذا،وهذا ما لا يريده؛ فكأنما يوحي لنا بكذب الخبر، وإن لم يكن كذلك فلِمَ يقول: اسمعواعجب؟! هذه فكرة، وفكرة أخرى يحملها المعنى، وهي أن يكون في نفس المؤلف ضغينة علىعُمر وعَمرو، فنسب إليهما هذه الفِرْية، وهو يدعونا إلى التعجب من شدة هذا الأمر. وعلىكلا الأمرين، فإن إثارة العجب والدعوة إلى الاستماع فيها شيء من الإيحاء وعدمالنزاهة، ويجعل ما سبق من الخبر فِرْية لا صحة لها.
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ