الوجود الإسلامي في صِقِلِّيَّة بعد سُقوطها في أيدي النُّورْمان
استمر الوجود الإسلامي في جزيرة صِقِلِّيَّة ما يزيد عن قرنين ونصف القَرْن من الزَّمان، وصَرَّح بعض حُذَّاق المؤرخين من المعاصرين أن مُدَّة ذلك زادت على المائتين وسبعين سنة
وحقيقة اللُّبْث الإسلامي في الجزيرة تَرْبو على ذلك إذا نظرنا إليه من الجهة التي نريد إثباتها في المقال، لا من جهة الوصف الشرعي لتلك الديار بعد زوال حُكم المسلمين لها؛ فقد استمر وجود كثير من المسلمين في الجزيرة بعد وقوعها في أيدي النصارى من النورمان، وكان من هؤلاء: أهل المدن المتمتعون بشيء من الحرية دون التوسع في الممتلكات، والفلاحون المُسْتَرَقُّون من قِبَل الغزاة، والجنود في الجيش والأسطول
وقد كان من شأن روجر الأول عقب استيلائه على الجزيرة أن أبقى العُمَّال المسلمين على ولاياتهم أول الأمر، ثم أخذ يعْزِلُهم واحدًا بعد الآخر، ويُوَلِّي مكانهم حُكَّامًا من النورمان، أو الصِّقِلِّيِّين النَّصارى، ولم يُبْقِ إلا عددًا قليلًا من العرب، ممن تَوَسَّم فيهم الإخلاص له.
وقد أعطى بعضُ ملوك النورمان للمسلمين قَدْرًا كبيرًا من الحُرِّية في الشعائر، بل مَنَحُوهم شيئًا من الحُرِّية في تطبيق الشرائع، وأَحْسَن غيرُ واحد من مُلوكهم مُعامَلَة المسلمين، حتى قال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى في الكامل عن روجر الثاني الذي حكم من سنة ست وخمسمائة إلى سنة تسع وأربعين وخمسمائة من الهجرة: وأَكْرَم المسلمين، وقَرَّبَهم، ومنع عنهم الفرنج، فأحَبّوه،انتهى.
وقد اعتبر بعضُ المؤرخين وفاة روجر الثاني نهاية لعصر التَّسامُح الدِّيْنِي المَزْعوم في الجزيرة، وبداية لاضطهاد المسلمين فيها، وأن غليالم (وليام) الأول قد بدأ ينتهج سياسة القضاء على المسلمين في صِقِلِّيَّة، وأن غليالم (وليام) الثاني قد أكمل من بعده على البَقِيَّة الباقية منهم.
في حين يرى بعضُهم أن حال المَلِكين غليالم الأول، والثاني كان كحال روجر الأول، والثاني، بل وصفوا عصرَ غليالم الثاني بأنه كان مَضْرِب المثل في الهدوء والطمأنينة والسَّكِيْنة.
لكن المعروف عن كل من غليالم الأول (1154م-1166م) والثاني (1166م - 1189م) انغماسهما في اللَّهْو، والمُجون، والفِسْق أَغْلَب عُمْرهما، حتى أن وارِثَ عَرْش غليالم الثاني كان أحد أبنائه غير الشَّرْعيين، وكان يُدْعَى تانكرد، فقام الإمبراطور الألماني هِنْرِي السادس - والذي كان قد تزوج من ابنة عَمِّ غليالم الثاني وَريثة عَرْش صِقِلِّيَّة - بالتّّحالُف مع بيزة، وجنوة؛ ليستولي على مملكة الصِّقِلِّيَتَيْن - جنوب إيطاليا وصِقِلِّيَّة - وليُحَقِّق أُمْنِيَّتَه بتوحيد الممالك الثلاثة، وخَلَفَه من بعده ابنُه فريدريك الثاني الذي يُعَدُّ عَصْرُه بمثابة نَقْلَة كبرى نحو خروج أوروبا من بَراثِن القَهْر الكَنَسِي الجاثِم على صَدْرها.
قد يستغرب البعضُ من إدْراج فترة الحُكم العُبَيْدِي المُسَمَّى بالفاطمي في فترة الوجود الإسلامي في الجزيرة، مع كون تلك الطائفة معروفة الحُكْم، غير مُتنازَع بين العلماء في حالها، ولكن ذلك الإدراج غير غريب في الحقيقة لمن تأمَّل غاية هذا البحث؛ فإن المقصود من الوجود الإسلامي في صقلية هنا لا يلزم منه قيام حُكم إسلامي شرعي، وإنما يكفي لإطلاق وَصْفه وجود المسلمين في أرجاء الجزيرة، مؤدِّين للشعائر الإسلامية، قائمين ببعض الشرائع فيها، وهذا هو المتوافق مع المقصود من البحث.
ولا شك أنه كان بصقلية ـ كما كان بغيرها ـ تحت الحُكْم العُبَيْدِي من أهل السنة الكثير، بل خرج منها جماعة كثيرة من العلماء المسلمين كما قال السمعاني في الأنساب (3/549)، وكذا كان بها من أهل البدع غير الخارجين عن المِلَّة طوائف.
وهذه العِلَّة تدعونا ولا بُدَّ للحديث عن معالم الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها في أيدي النصارى؛ لوجود هامش من الحرية في بعض الفترات ـ كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى ـ يُتيح للمسلمين إظهار بعض الشعائر، وتطبيق بعض الشرائع، وإن كان هذا لا يُعَدُّ مُسَوِّغًا لبقائهم تحت حُكم الكفر كما سنوضح إن شاء الله تعالى.
وقد كان العُبَيْدِيِّون الباطنية يلجؤون إلى التَّقِيَّة مع شعوبهم حين تكثر الثورات، أو تضعف شَوْكَتُهم، وفِعْل المنصور إسماعيل بن القائم الذي اقتصر على إظهار التشيع دون الجهر بما في المذهب من كفر وشرك مثال على ذلك، لاسيما إن وضعنا في الاعتبار أن بعض الولاة من قِبَلهم لم يكونوا من طائفتهم، وإن التزموا طاعتهم والدخول تحت سُلْطانهم سياسيًا، ولا نبعد عن الدقة إن وصفنا ذلك بالتبعية الاسمية في بعض الأحيان، المتمثلة في الدعاء لمن يُسَمُّونه بالخليفة الفاطمي، وضَرْب اسْمِه على السِّكة، ونحو ذلك من أمارات التبعية لمن يوصف بالخلافة، بحق أو بباطل، وأولاد ابن أبي الحسين الذين حكموا الجزيرة طويلًا نموذج على ذلك؛ فقد كانوا عمليًا حكام الجزيرة، القائمين بشؤونها، لا مجرد عُمَّال للخليفة الفاطمي المُدَّعَى يُحَرِّكهم كيفما أراد. وقد كان هذا نوع من إضفاء الشرعية السياسية على الحُكم، حرص عليه كثير من الملوك والأمراء في ذلك الزمان، وقبله، وبعده، وإن كانوا من القدرة على الاستقلال بشؤون ممالكهم بمكان، والله أعلم.
قال الزركلي في الأعلام (2/88) في ترجمة المُعِزِّ ابن باديس: واستولى العدو في أيامه على جزيرة صقلية سنة 484 هـ بعد أن لبثت في أيدي المسلمين أكثر من 270 عاما،انتهى.
هاجر من الجزيرة عقب سقوطها عددٌ من علمائها وأعيانها، فمنهم من نزل بمصر ـ وكانت إذ ذاك تحت الحُكم العُبَيْدِي ـ كإمام اللغة والأدب ابن القَطَّاع، مُصَنِّف كتاب "الأفعال" المتوفى سنة 515هـ، و، ومنهم من رحل إلى الأندلس، كالأديب أبي العرب العبدري الصقلي المتوفى سنة 506هـ، وهو غير الحافظ المحدث أبي العرب التميمي الصقلي المتوفى سنة 333هـ، والذي امتحن من العبيديين بعد ظهور دولتهم بالمغرب، وشاركهم في جهادهم. ومنهم من وُلِد بعد سقوطها، فرحل عنها إلى ديار الإسلام، كالمُفَسِّر الأديب ابن ظفر الصقلي، المولود بها سنة 497، والمتوفى سنة 565، وكان قد نشأ بمكة، ثم جال في إفريقية والأندلس، ثم استوطن حماة بالشام. وقد عقد الدكتور إحسان عباس فصلًا في كتابه [العرب في صقلية] عن هجرة أهل العلم والأدب منها عقب سقوطها في أيدي النصارى (ص227 - ص232).
قال ابن جبير في رحلته ص322عن صقلية بعد أن زارها: لكنها مَعْمورة بعَبَدَة الصُّلْبان، يمشون في مَناكبها، ويَرْتَعون في أكْنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم، قد حَسَّنوا السيرة في استعمالهم، واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض كانوا يجدونها،انتهى. وظاهر كلامه أن المسلمين عامة كانوا يدفعون الجزية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان في جيوش النورمان كثير من المسلمين، وكانوا يُساقون لمحاربة إخوانهم في الدين من مسلمي شمال إفريقية، وفي هذا من الخطر على دين المرء ما لا يوصف، ولا مُسَوِّغ لدَعْوى الإكراه فيه؛ إذ فيه إعانة للكافرين على المسلمين، ودخول في طائفتهم المحارِبة للمسلمين، ولا يُبَرِّر الإكراه للمسلم أن يُطيع مُسْلِمًا في سَفْك دَمِ مسلم ثالث، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ فإن دَمَه ودَمَ أخيه المسلم سواء، فما بالك بمعاونة الكافر على قتله؟
قد ينخدع بما ذكرناه بعض المُعْتَقِدين فيما يُسَمَّى بالتَّعايُش السِّلْمي بين الأديان وَفْق المفهوم المُعاصر، لا وَفْق المفاهيم الشرعية الصحيحة، الضَّابِطة لعلاقة المسلمين بغيرهم، ولا يَخْفَى ما في مُراعاة المصطلحات الشرعية من صيانة لتلك المفاهيم الشرعية، وحِفْظ لها من كل دَخيل، وإزالة لما قد يَعْتَرِيها من غَبَش والتباس؛ فمصطلح التعايش بمفهومه المُعاصِر مُبايِنٌ للمصطلحات الشرعية المستعملة في شأن المُعاهَدِين من الذِّمِّيِّين، وغيرهم، ومُخالفٌ في مَدْلولاته ومُقْتَضياته لمَدْلولات ومُقْتَضيات العُهود المُبْرَمة مع غير المسلمين في ديار المسلمين، والمارِّين بها، والمُجاورين لها من الأمم، ولذلك تفصيل طويل مَبْسوط في مُصَنَّفات الفقهاء، وتآليف السياسة الشرعية، وأفردها كثير من أهل العلم بالتصنيف، ومن أَجَلِّها كتاب "أحكام أهل الذِّمَّة" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
أما عن صُدور ذلك التَّعايُش السَّلْمِي من قِبَل الكفار إزاء المسلمين؛ فإنه لا يَخْرُج عن حالة من اثنتين ـ وكثيرًا ما تجتمعا ـ الأولى: أن يضطر الكفار لذلك سياسةً؛ لشدة حاجتهم إليه، وعَجْزهم عن غيره، والشواهد عليه في التاريخ القديم والمعاصر كثيرة، والثانية: أن يَتَخَلَّى الكفار عن مُعْتَقَدِهم، ولا يبقى لهم من الصِّلَة به إلا الانتساب المُتَوارَث، غير أن هذا الأخير لا يعني زوال حَمِيَّتهم الجاهلية لدين الآباء والأجداد بالكُلِّيَّة؛ فشواهِدُ اصْطباغ الانتماء الديني بصِبْغة القومية المُتوارثة عن الأسلاف أكثر من أن تُحْصَى، وتظهر تلك الحَمِيَّة في فَلَتات أَلْسِنتهم، ويَسْتعلنون بها من حين لآخر إذا طَفَح الكيل بهم من فُشُوِّ الإسلام بين أظهرهم، أو اشْتَمُّوا من المسلمين قوة وعزة، جعل الله كيدهم في نحورهم.
وفيما نقلناه عن الدكتور إحسان عباس بيان لعلة تسامح ـ إن سَلَّمْنا بتسميته بذلك ـ بعض ملوك النورمان النصارى الذين حكموا صقلية مع المسلمين، والله أعلم.
ذكر ابن جبير في رحلته (ص332) أنه رأى مُسْلِمي مدينة "طرابنش" يخرجون إلى مُصلَّاهم مع صاحب أحكامهم، وأن خُطْبة الجمعة كانت مَحْظورة عليهم، لكنهم يُصَلُّون العيد بخُطْبة، ويدعون للخليفة العباسي، ووصف كثرة مساجدهم التي كانت معمورة بتعليم القرآن، وذكر (ص336) أن لمُسْلِمي بَلِرم قاضٍ يرتفعون إليه في أحكامهم، ونقل الدكتور إحسان عباس في كتابه العرب في صقلية ص144عن المستشرق الصِّقِلِّي "أماري" صاحب تاريخ مُسْلِمي صِقِلِّيَّة أنه كان للمسلمين: الشيخ، والحاكم، والقاضي، والعامل، والقائد، وكان لقب القائد يدل على درجة مدنية تقع في المَرْتبة دون الأمير.
كان روجر يُقَرِّب زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم، مما جعل البعض يعتقد أنه كان يتخَفَّى بإسلامه، والناظر في حاله يعرف أن الرجل كان يحب الهدوء والطمأنينة في مملكته، ولا يَسْتَنْكِف عن وسيلة تُوصِلُه إليه، فأراد كسب قلوب جميع من يعيش تحت حُكمه، وعَدَمَ إثارة الفتن والقلاقل بدافع ديني يَزُجُّ بالجزيرة إلى عواقب وَخيمة على مُلْك النورمان لها، ولم يكن يُهَدِّد ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة كالضَّرْب على الوَتَر الديني، ولذلك لم يكن يسمح للمسلمين في جيشه أن يَتَنَصَّروا، ولا يحب أن يرى النصارى يعتنقون الإسلام. انظر: العرب في صقلية (ص148).
كان اتّهام أعداء روجر له بالإسلام سرًا قد جعله يدفع ذلك عن نفسه ببناء الكنائس، بل بإغراء المسلمين على التَّنَصُّر إن صَحَّ ما يقوله روموالد المؤرخ، فهو يَصِف رجار بأنه عني في آخر أيامه بتنصير اليهود والمسلمين، مُسْبِغًا على من تَنَصَّر منهم أسباب النعمة الدنيوية.
أما قصة حَرْقه لفيليب أمير الأسطول، فهي مشهورة جدًا؛ فقد غزا فيليب بونة (عنابة)، واستولى عليها، غير أنه أَغْضَى على جماعة من العلماء، والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم، وأموالهم إلى القُرى، ولما عاد إلى صقلية قبض عليه رجار؛ لما اعتمده من الرِّفْق بالمسلمين، وكان يُقال: إنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمون إسلامهم، وشهد عليه بعضهم أنه ليصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة، والقُسوس، والفرسان، فحكموا بأن يُحْرَق في رمضان، وهذا أول وَهَن دخل على المسلمين بصقلية. انظر: العرب في صقلية (ص148).
ولا ينبغي أن ننسى كثرة إغارة المذكور، وسَلَفه، وخَلَفه على بلاد المسلمين، ونزولهم العديد من مدن شمال إفريقية، والسيطرة عليها لمدة، وما صاحب ذلك من صنائع جيوشهم، وخَزايا جُنْدهم، حتى طَرَد عبد المؤمن بن علي أول ملوك المُوَحِّدين النورمان من جميع شواطئ إفريقية، وطَهَّرها من رِجْسهم، على ما كان فيه من بِدْعة ليس هذا مِحِلُّ التَّعَرُّض لبيانها.
وإن الشواهد لتؤكد على تَصَنُّع التَّسامُح من قبل هؤلاء، بغَضِّ النَّظَر عن دوافعهم من وراء تلك الأفعال، وهل كان إقْدامُهم عليها؛ رَغْبةً في إثبات ولائهم للنصرانية أمام أتباعهم، ورجال دينهم، أم كان إظهارًا لمَكْنون صُدروهم المَحْشُوَّة بالحِقْد الصَّلِيبي، المُغَلَّفة بغُلاف زائف من نَبْذ التَّعَصُّب الديني كما يُسَمُّونه.
استمر الوجود الإسلامي في جزيرة صِقِلِّيَّة ما يزيد عن قرنين ونصف القَرْن من الزَّمان، وصَرَّح بعض حُذَّاق المؤرخين من المعاصرين أن مُدَّة ذلك زادت على المائتين وسبعين سنة
وحقيقة اللُّبْث الإسلامي في الجزيرة تَرْبو على ذلك إذا نظرنا إليه من الجهة التي نريد إثباتها في المقال، لا من جهة الوصف الشرعي لتلك الديار بعد زوال حُكم المسلمين لها؛ فقد استمر وجود كثير من المسلمين في الجزيرة بعد وقوعها في أيدي النصارى من النورمان، وكان من هؤلاء: أهل المدن المتمتعون بشيء من الحرية دون التوسع في الممتلكات، والفلاحون المُسْتَرَقُّون من قِبَل الغزاة، والجنود في الجيش والأسطول
وقد كان من شأن روجر الأول عقب استيلائه على الجزيرة أن أبقى العُمَّال المسلمين على ولاياتهم أول الأمر، ثم أخذ يعْزِلُهم واحدًا بعد الآخر، ويُوَلِّي مكانهم حُكَّامًا من النورمان، أو الصِّقِلِّيِّين النَّصارى، ولم يُبْقِ إلا عددًا قليلًا من العرب، ممن تَوَسَّم فيهم الإخلاص له.
وقد أعطى بعضُ ملوك النورمان للمسلمين قَدْرًا كبيرًا من الحُرِّية في الشعائر، بل مَنَحُوهم شيئًا من الحُرِّية في تطبيق الشرائع، وأَحْسَن غيرُ واحد من مُلوكهم مُعامَلَة المسلمين، حتى قال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى في الكامل عن روجر الثاني الذي حكم من سنة ست وخمسمائة إلى سنة تسع وأربعين وخمسمائة من الهجرة: وأَكْرَم المسلمين، وقَرَّبَهم، ومنع عنهم الفرنج، فأحَبّوه،انتهى.
وقد اعتبر بعضُ المؤرخين وفاة روجر الثاني نهاية لعصر التَّسامُح الدِّيْنِي المَزْعوم في الجزيرة، وبداية لاضطهاد المسلمين فيها، وأن غليالم (وليام) الأول قد بدأ ينتهج سياسة القضاء على المسلمين في صِقِلِّيَّة، وأن غليالم (وليام) الثاني قد أكمل من بعده على البَقِيَّة الباقية منهم.
في حين يرى بعضُهم أن حال المَلِكين غليالم الأول، والثاني كان كحال روجر الأول، والثاني، بل وصفوا عصرَ غليالم الثاني بأنه كان مَضْرِب المثل في الهدوء والطمأنينة والسَّكِيْنة.
لكن المعروف عن كل من غليالم الأول (1154م-1166م) والثاني (1166م - 1189م) انغماسهما في اللَّهْو، والمُجون، والفِسْق أَغْلَب عُمْرهما، حتى أن وارِثَ عَرْش غليالم الثاني كان أحد أبنائه غير الشَّرْعيين، وكان يُدْعَى تانكرد، فقام الإمبراطور الألماني هِنْرِي السادس - والذي كان قد تزوج من ابنة عَمِّ غليالم الثاني وَريثة عَرْش صِقِلِّيَّة - بالتّّحالُف مع بيزة، وجنوة؛ ليستولي على مملكة الصِّقِلِّيَتَيْن - جنوب إيطاليا وصِقِلِّيَّة - وليُحَقِّق أُمْنِيَّتَه بتوحيد الممالك الثلاثة، وخَلَفَه من بعده ابنُه فريدريك الثاني الذي يُعَدُّ عَصْرُه بمثابة نَقْلَة كبرى نحو خروج أوروبا من بَراثِن القَهْر الكَنَسِي الجاثِم على صَدْرها.
قد يستغرب البعضُ من إدْراج فترة الحُكم العُبَيْدِي المُسَمَّى بالفاطمي في فترة الوجود الإسلامي في الجزيرة، مع كون تلك الطائفة معروفة الحُكْم، غير مُتنازَع بين العلماء في حالها، ولكن ذلك الإدراج غير غريب في الحقيقة لمن تأمَّل غاية هذا البحث؛ فإن المقصود من الوجود الإسلامي في صقلية هنا لا يلزم منه قيام حُكم إسلامي شرعي، وإنما يكفي لإطلاق وَصْفه وجود المسلمين في أرجاء الجزيرة، مؤدِّين للشعائر الإسلامية، قائمين ببعض الشرائع فيها، وهذا هو المتوافق مع المقصود من البحث.
ولا شك أنه كان بصقلية ـ كما كان بغيرها ـ تحت الحُكْم العُبَيْدِي من أهل السنة الكثير، بل خرج منها جماعة كثيرة من العلماء المسلمين كما قال السمعاني في الأنساب (3/549)، وكذا كان بها من أهل البدع غير الخارجين عن المِلَّة طوائف.
وهذه العِلَّة تدعونا ولا بُدَّ للحديث عن معالم الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها في أيدي النصارى؛ لوجود هامش من الحرية في بعض الفترات ـ كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى ـ يُتيح للمسلمين إظهار بعض الشعائر، وتطبيق بعض الشرائع، وإن كان هذا لا يُعَدُّ مُسَوِّغًا لبقائهم تحت حُكم الكفر كما سنوضح إن شاء الله تعالى.
وقد كان العُبَيْدِيِّون الباطنية يلجؤون إلى التَّقِيَّة مع شعوبهم حين تكثر الثورات، أو تضعف شَوْكَتُهم، وفِعْل المنصور إسماعيل بن القائم الذي اقتصر على إظهار التشيع دون الجهر بما في المذهب من كفر وشرك مثال على ذلك، لاسيما إن وضعنا في الاعتبار أن بعض الولاة من قِبَلهم لم يكونوا من طائفتهم، وإن التزموا طاعتهم والدخول تحت سُلْطانهم سياسيًا، ولا نبعد عن الدقة إن وصفنا ذلك بالتبعية الاسمية في بعض الأحيان، المتمثلة في الدعاء لمن يُسَمُّونه بالخليفة الفاطمي، وضَرْب اسْمِه على السِّكة، ونحو ذلك من أمارات التبعية لمن يوصف بالخلافة، بحق أو بباطل، وأولاد ابن أبي الحسين الذين حكموا الجزيرة طويلًا نموذج على ذلك؛ فقد كانوا عمليًا حكام الجزيرة، القائمين بشؤونها، لا مجرد عُمَّال للخليفة الفاطمي المُدَّعَى يُحَرِّكهم كيفما أراد. وقد كان هذا نوع من إضفاء الشرعية السياسية على الحُكم، حرص عليه كثير من الملوك والأمراء في ذلك الزمان، وقبله، وبعده، وإن كانوا من القدرة على الاستقلال بشؤون ممالكهم بمكان، والله أعلم.
قال الزركلي في الأعلام (2/88) في ترجمة المُعِزِّ ابن باديس: واستولى العدو في أيامه على جزيرة صقلية سنة 484 هـ بعد أن لبثت في أيدي المسلمين أكثر من 270 عاما،انتهى.
هاجر من الجزيرة عقب سقوطها عددٌ من علمائها وأعيانها، فمنهم من نزل بمصر ـ وكانت إذ ذاك تحت الحُكم العُبَيْدِي ـ كإمام اللغة والأدب ابن القَطَّاع، مُصَنِّف كتاب "الأفعال" المتوفى سنة 515هـ، و، ومنهم من رحل إلى الأندلس، كالأديب أبي العرب العبدري الصقلي المتوفى سنة 506هـ، وهو غير الحافظ المحدث أبي العرب التميمي الصقلي المتوفى سنة 333هـ، والذي امتحن من العبيديين بعد ظهور دولتهم بالمغرب، وشاركهم في جهادهم. ومنهم من وُلِد بعد سقوطها، فرحل عنها إلى ديار الإسلام، كالمُفَسِّر الأديب ابن ظفر الصقلي، المولود بها سنة 497، والمتوفى سنة 565، وكان قد نشأ بمكة، ثم جال في إفريقية والأندلس، ثم استوطن حماة بالشام. وقد عقد الدكتور إحسان عباس فصلًا في كتابه [العرب في صقلية] عن هجرة أهل العلم والأدب منها عقب سقوطها في أيدي النصارى (ص227 - ص232).
قال ابن جبير في رحلته ص322عن صقلية بعد أن زارها: لكنها مَعْمورة بعَبَدَة الصُّلْبان، يمشون في مَناكبها، ويَرْتَعون في أكْنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم، قد حَسَّنوا السيرة في استعمالهم، واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض كانوا يجدونها،انتهى. وظاهر كلامه أن المسلمين عامة كانوا يدفعون الجزية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان في جيوش النورمان كثير من المسلمين، وكانوا يُساقون لمحاربة إخوانهم في الدين من مسلمي شمال إفريقية، وفي هذا من الخطر على دين المرء ما لا يوصف، ولا مُسَوِّغ لدَعْوى الإكراه فيه؛ إذ فيه إعانة للكافرين على المسلمين، ودخول في طائفتهم المحارِبة للمسلمين، ولا يُبَرِّر الإكراه للمسلم أن يُطيع مُسْلِمًا في سَفْك دَمِ مسلم ثالث، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ فإن دَمَه ودَمَ أخيه المسلم سواء، فما بالك بمعاونة الكافر على قتله؟
قد ينخدع بما ذكرناه بعض المُعْتَقِدين فيما يُسَمَّى بالتَّعايُش السِّلْمي بين الأديان وَفْق المفهوم المُعاصر، لا وَفْق المفاهيم الشرعية الصحيحة، الضَّابِطة لعلاقة المسلمين بغيرهم، ولا يَخْفَى ما في مُراعاة المصطلحات الشرعية من صيانة لتلك المفاهيم الشرعية، وحِفْظ لها من كل دَخيل، وإزالة لما قد يَعْتَرِيها من غَبَش والتباس؛ فمصطلح التعايش بمفهومه المُعاصِر مُبايِنٌ للمصطلحات الشرعية المستعملة في شأن المُعاهَدِين من الذِّمِّيِّين، وغيرهم، ومُخالفٌ في مَدْلولاته ومُقْتَضياته لمَدْلولات ومُقْتَضيات العُهود المُبْرَمة مع غير المسلمين في ديار المسلمين، والمارِّين بها، والمُجاورين لها من الأمم، ولذلك تفصيل طويل مَبْسوط في مُصَنَّفات الفقهاء، وتآليف السياسة الشرعية، وأفردها كثير من أهل العلم بالتصنيف، ومن أَجَلِّها كتاب "أحكام أهل الذِّمَّة" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
أما عن صُدور ذلك التَّعايُش السَّلْمِي من قِبَل الكفار إزاء المسلمين؛ فإنه لا يَخْرُج عن حالة من اثنتين ـ وكثيرًا ما تجتمعا ـ الأولى: أن يضطر الكفار لذلك سياسةً؛ لشدة حاجتهم إليه، وعَجْزهم عن غيره، والشواهد عليه في التاريخ القديم والمعاصر كثيرة، والثانية: أن يَتَخَلَّى الكفار عن مُعْتَقَدِهم، ولا يبقى لهم من الصِّلَة به إلا الانتساب المُتَوارَث، غير أن هذا الأخير لا يعني زوال حَمِيَّتهم الجاهلية لدين الآباء والأجداد بالكُلِّيَّة؛ فشواهِدُ اصْطباغ الانتماء الديني بصِبْغة القومية المُتوارثة عن الأسلاف أكثر من أن تُحْصَى، وتظهر تلك الحَمِيَّة في فَلَتات أَلْسِنتهم، ويَسْتعلنون بها من حين لآخر إذا طَفَح الكيل بهم من فُشُوِّ الإسلام بين أظهرهم، أو اشْتَمُّوا من المسلمين قوة وعزة، جعل الله كيدهم في نحورهم.
وفيما نقلناه عن الدكتور إحسان عباس بيان لعلة تسامح ـ إن سَلَّمْنا بتسميته بذلك ـ بعض ملوك النورمان النصارى الذين حكموا صقلية مع المسلمين، والله أعلم.
ذكر ابن جبير في رحلته (ص332) أنه رأى مُسْلِمي مدينة "طرابنش" يخرجون إلى مُصلَّاهم مع صاحب أحكامهم، وأن خُطْبة الجمعة كانت مَحْظورة عليهم، لكنهم يُصَلُّون العيد بخُطْبة، ويدعون للخليفة العباسي، ووصف كثرة مساجدهم التي كانت معمورة بتعليم القرآن، وذكر (ص336) أن لمُسْلِمي بَلِرم قاضٍ يرتفعون إليه في أحكامهم، ونقل الدكتور إحسان عباس في كتابه العرب في صقلية ص144عن المستشرق الصِّقِلِّي "أماري" صاحب تاريخ مُسْلِمي صِقِلِّيَّة أنه كان للمسلمين: الشيخ، والحاكم، والقاضي، والعامل، والقائد، وكان لقب القائد يدل على درجة مدنية تقع في المَرْتبة دون الأمير.
كان روجر يُقَرِّب زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم، مما جعل البعض يعتقد أنه كان يتخَفَّى بإسلامه، والناظر في حاله يعرف أن الرجل كان يحب الهدوء والطمأنينة في مملكته، ولا يَسْتَنْكِف عن وسيلة تُوصِلُه إليه، فأراد كسب قلوب جميع من يعيش تحت حُكمه، وعَدَمَ إثارة الفتن والقلاقل بدافع ديني يَزُجُّ بالجزيرة إلى عواقب وَخيمة على مُلْك النورمان لها، ولم يكن يُهَدِّد ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة كالضَّرْب على الوَتَر الديني، ولذلك لم يكن يسمح للمسلمين في جيشه أن يَتَنَصَّروا، ولا يحب أن يرى النصارى يعتنقون الإسلام. انظر: العرب في صقلية (ص148).
كان اتّهام أعداء روجر له بالإسلام سرًا قد جعله يدفع ذلك عن نفسه ببناء الكنائس، بل بإغراء المسلمين على التَّنَصُّر إن صَحَّ ما يقوله روموالد المؤرخ، فهو يَصِف رجار بأنه عني في آخر أيامه بتنصير اليهود والمسلمين، مُسْبِغًا على من تَنَصَّر منهم أسباب النعمة الدنيوية.
أما قصة حَرْقه لفيليب أمير الأسطول، فهي مشهورة جدًا؛ فقد غزا فيليب بونة (عنابة)، واستولى عليها، غير أنه أَغْضَى على جماعة من العلماء، والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم، وأموالهم إلى القُرى، ولما عاد إلى صقلية قبض عليه رجار؛ لما اعتمده من الرِّفْق بالمسلمين، وكان يُقال: إنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمون إسلامهم، وشهد عليه بعضهم أنه ليصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة، والقُسوس، والفرسان، فحكموا بأن يُحْرَق في رمضان، وهذا أول وَهَن دخل على المسلمين بصقلية. انظر: العرب في صقلية (ص148).
ولا ينبغي أن ننسى كثرة إغارة المذكور، وسَلَفه، وخَلَفه على بلاد المسلمين، ونزولهم العديد من مدن شمال إفريقية، والسيطرة عليها لمدة، وما صاحب ذلك من صنائع جيوشهم، وخَزايا جُنْدهم، حتى طَرَد عبد المؤمن بن علي أول ملوك المُوَحِّدين النورمان من جميع شواطئ إفريقية، وطَهَّرها من رِجْسهم، على ما كان فيه من بِدْعة ليس هذا مِحِلُّ التَّعَرُّض لبيانها.
وإن الشواهد لتؤكد على تَصَنُّع التَّسامُح من قبل هؤلاء، بغَضِّ النَّظَر عن دوافعهم من وراء تلك الأفعال، وهل كان إقْدامُهم عليها؛ رَغْبةً في إثبات ولائهم للنصرانية أمام أتباعهم، ورجال دينهم، أم كان إظهارًا لمَكْنون صُدروهم المَحْشُوَّة بالحِقْد الصَّلِيبي، المُغَلَّفة بغُلاف زائف من نَبْذ التَّعَصُّب الديني كما يُسَمُّونه.
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ