alquseyaمنتدى أبناء القوصيه

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى ثقاقي-اجتماعي-يطمح الى الارتقاء بالقوصيه وتطويرها المنتدى منبر لكل ابناء القوصيه

منتدى ابناء القوصيه يدعو شرفاء اسيوط الى كشف اي تجاوزات تمت من اي من موظفي النظام الفاسد وتشرها في منبرنا الحر
حسبنا الله ونعم الوكيل لقد خطفت منا مصر مره اخري

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

المواضيع الأخيرة

» سيف الدين قطز
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالسبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ

» كنوز الفراعنه
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالسبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ

» الثقب الاسود
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالسبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ

» طفل بطل
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ

» دكتور زاكي الدين احمد حسين
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ

» البطل عبدالرؤوف عمران
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ

» نماذج مشرفه من الجيش المصري
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ

» حافظ ابراهيم
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالسبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ

» حافظ ابراهيم
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالسبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ

» دجاجة القاضي
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ

» اخلاق رسول الله
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ

» يوم العبور في يوم اللا عبور
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ

» من اروع ما قرات عن السجود
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ

» قصه وعبره
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ

» كيف تصنع شعب غبي
تاريخ ابن خلدون الجزء الأول I_icon_minitimeالخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ


2 مشترك

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    ابو يحيي
    ابو يحيي
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 2596
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010
    الموقع : المدير العام

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف ابو يحيي الأربعاء ديسمبر 29, 2010 6:12 pm






    • تمهيـــد







    • المقدمة في فضل علم التاريخ







    • فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر







    • الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة








      • الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة







        • المقدمة الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري







          • الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه







        • المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم






        • المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر






        • المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا







          • الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً







        • فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها






        • فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة







          • فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس








      • الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال







        • الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية






        • الفصل الثاني






        • الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه






        • الفصل الرابع من أهل الحضر






        • الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام






        • الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية






        • الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه






        • الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك






        • الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع






        • الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية






        • الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية






        • الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة






        • الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي






        • الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء






        • الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها






        • الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك






        • الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف






        • الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل






        • الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس






        • الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب






        • الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده






        • الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط






        • الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان






        • الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك






        • الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك






        • الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل







      • الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية







        • الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية






        • الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي






        • الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك






        • الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم






        • الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها






        • الفصل التاسع في أن الأوطان الكثيرة القبائل






        • الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد






        • الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف






        • الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون






        • الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك






        • الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص






        • الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة






        • الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها






        • الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار






        • الفصل الثامن عشر في أن أثار الدولة كلها






        • الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه






        • الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول






        • الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه






        • الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه






        • الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر






        • الفصل الخامس والعشرون في معني الخلافة والإمامة






        • الفصل السابع والعشرون في الشيعة






        • الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة






        • الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية






        • الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين






        • الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية






        • الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها







          • الحجابة






          • الشرطة







        • الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم






        • الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به







          • فصل: ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر







        • الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها






        • الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة






        • الفصل الأربعون مفسدة للجباية






        • الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان






        • الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية






        • الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران






        • الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول






        • الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها






        • الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة






        • الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع






        • الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة






        • الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات






        • الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري






        • الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك






        • الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأمم







      • الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران







        • الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار






        • الفصل الثالث في أن المدن العظيمة






        • الفصل الخامس فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة






        • الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم







          • الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم







        • الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة






        • الفصل الثامن بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول






        • الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل






        • الفصل العاشر في مبادىء الخراب في الأمصار






        • الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار






        • الفصل الخامس في باب الكسب والرزق






        • الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران






        • الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها






        • الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها






        • الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة






        • الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول






        • الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده






        • الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها






        • الفصل العشرون دون بعض






        • الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار







      • الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل







        • الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما






        • الفصل الثاني وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش






        • الفصل الثالث في أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة






        • الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي






        • الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال






        • الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً






        • الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين






        • الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو






        • الفصل التاسع في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها






        • الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة






        • الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة






        • الفصل الثالث عشر في الاحتكار






        • الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص






        • الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة






        • الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم






        • الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته






        • الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع






        • الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع






        • الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع






        • الفصل الثاني والعشرون في أن من حصلت له ملكة في صناعة






        • الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع






        • الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة






        • الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء






        • الفصل السادس والعشرون النجارة






        • الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة






        • الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد






        • الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب






        • الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة






        • الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة






        • الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء






        • الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب







      • الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها







        • الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي






        • الفصل الثاني في أن تعليم العلم من جملة الصنائع






        • الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر الثمران وتعظم الحضارة






        • الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد






        • الفصل الخامس علوم القرآن من التفسير والقراءات






        • الفصل السادس علوم الحديث






        • الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض






        • الفصل الثامن علم الفرائض






        • الفصل التاسع أصول الفقه






        • الفصل العاشر علم الكلام






        • الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية






        • الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه






        • الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام






        • الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب






        • الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة






        • الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا






        • الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها






        • الفصل العشرون العلوم العددية






        • الفصل الحادي والعشرون العلوم الهندسية






        • الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة






        • الفصل الثالث العشرون علم المنطق






        • الفصل الخامس والعشرون علم الطب






        • الفصل السادس والعشرون الفلاحة






        • الفصل السابع والعشرون علم الإلهيات






        • الفصل الثامن والعشرون علوم السحر والطلسمات






        • الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف







          • فصل في المقامات للنهاية






          • فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية






          • فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية







        • الفصل الثلاثون علم الكيمياء






        • الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها






        • الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها






        • الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها






        • الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم






        • الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات






        • الفصل السابع والثلاثون وطريق إفادته






        • الفصل الثامن والثلاثون






        • الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه






        • الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم






        • الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم






        • الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها






        • الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي







          • علم الأدب







        • الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية






        • الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة






        • الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار






        • الفصل التاسع والأربعون في تعلم اللسان المضري






        • الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم






        • الفصل الحادي والخمسون في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه






        • الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر






        • الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه






        • الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر






        • الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ






        • الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله








    • الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد








      • المقدمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم







        • الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه إلى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم







          • الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم






          • قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن







        • الخبر عن ملوك بابل من القبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة







          • الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة






          • الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدسة بالشام







        • الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت







          • الخبر عن ملوك بني إسرائيل بع الحكام ثم افتراق أمرهم






          • الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم بيت المقدس على سبط يهوذا وبنيمامين إلى انقراضه







        • الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم إلى حين انقراض أمرهم







          • الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول






          • ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس







        • المؤرخون أربع طبقات







          • الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية






          • الخبر عن دولة يونان والروم و أنسابهم ومصايرهم كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكاً وسلطاناً







        • الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان إلى
          انقراض أمرهم هؤلاء اليونانيون المتشبعون إلى الغريقيين واللطينيين







          • الخبر عن اللطينيين وهو الكيتم المعروفون بالروم من أمم يونان و أشياعهم وشعوبهم






          • الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل أفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون







        • الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبد أ أمورهم ومصاير أحوالهم







          • الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفحال ملكهم
            بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعده إلى انقراض
            أمرهم






          • الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم







        • الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالإندلس إلى حين الفتح الإسلامي وأولية ذلك ومصايره







          • الخبر عن هم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمرونها بالمشرق






          • الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش







        • الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم







          • الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها






          • الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الذي كان فيها







        • الخبر عن بطون كهلان







          • الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذرمن هذه الطبقة وكيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم






          • الخبر عن ذلك أن عدي بن زيد







        • الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم







          • الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قبيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة






          • الخبر عن بني عدنان وانسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام







        • الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة







          • المولد الكريم وبدء التوحيد






          • الهجرة







        • غزوة بني قينقاع







          • غزوة الغابة وذي قرد






          • فتح مكة







        • اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات







          • خبر العنسي






          • الخبر عن الخلافة الاسلامية في هذه الطبقة وما كان منها من الردة
            والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الاسلام ثم الاتفاق
            والجماعة







        • بعث الجيوش للمرتدة







          • فتح الحيرة






          • أخبار القادسية







        • فتح المدائن وجلولاء بعدها







          • غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة






          • فتح أذربيجان







        • فتح قبرص




    ابو يحيي
    ابو يحيي
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 2596
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010
    الموقع : المدير العام

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف ابو يحيي الأربعاء ديسمبر 29, 2010 6:10 pm






    • تمهيـــد







    • المقدمة في فضل علم التاريخ







    • فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر







    • الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة








      • الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة







        • المقدمة الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري







          • الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه







        • المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم






        • المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر






        • المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا







          • الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً







        • فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها






        • فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة







          • فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس








      • الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال







        • الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية






        • الفصل الثاني






        • الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه






        • الفصل الرابع من أهل الحضر






        • الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام






        • الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية






        • الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه






        • الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك






        • الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع






        • الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية






        • الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية






        • الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة






        • الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي






        • الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء






        • الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها






        • الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك






        • الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف






        • الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل






        • الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس






        • الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب






        • الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده






        • الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط






        • الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان






        • الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك






        • الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك






        • الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل







      • الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية







        • الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية






        • الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي






        • الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك






        • الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم






        • الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها






        • الفصل التاسع في أن الأوطان الكثيرة القبائل






        • الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد






        • الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف






        • الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون






        • الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك






        • الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص






        • الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة






        • الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها






        • الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار






        • الفصل الثامن عشر في أن أثار الدولة كلها






        • الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه






        • الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول






        • الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه






        • الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه






        • الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر






        • الفصل الخامس والعشرون في معني الخلافة والإمامة






        • الفصل السابع والعشرون في الشيعة






        • الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة






        • الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية






        • الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين






        • الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية






        • الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها







          • الحجابة






          • الشرطة







        • الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم






        • الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به







          • فصل: ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر







        • الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها






        • الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة






        • الفصل الأربعون مفسدة للجباية






        • الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان






        • الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية






        • الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران






        • الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول






        • الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها






        • الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة






        • الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع






        • الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة






        • الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات






        • الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري






        • الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك






        • الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأمم







      • الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران







        • الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار






        • الفصل الثالث في أن المدن العظيمة






        • الفصل الخامس فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة






        • الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم







          • الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم







        • الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة






        • الفصل الثامن بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول






        • الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل






        • الفصل العاشر في مبادىء الخراب في الأمصار






        • الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار






        • الفصل الخامس في باب الكسب والرزق






        • الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران






        • الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها






        • الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها






        • الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة






        • الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول






        • الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده






        • الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها






        • الفصل العشرون دون بعض






        • الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار







      • الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل







        • الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما






        • الفصل الثاني وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش






        • الفصل الثالث في أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة






        • الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي






        • الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال






        • الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً






        • الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين






        • الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو






        • الفصل التاسع في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها






        • الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة






        • الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة






        • الفصل الثالث عشر في الاحتكار






        • الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص






        • الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة






        • الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم






        • الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته






        • الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع






        • الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع






        • الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع






        • الفصل الثاني والعشرون في أن من حصلت له ملكة في صناعة






        • الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع






        • الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة






        • الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء






        • الفصل السادس والعشرون النجارة






        • الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة






        • الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد






        • الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب






        • الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة






        • الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة






        • الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء






        • الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب







      • الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها







        • الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي






        • الفصل الثاني في أن تعليم العلم من جملة الصنائع






        • الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر الثمران وتعظم الحضارة






        • الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد






        • الفصل الخامس علوم القرآن من التفسير والقراءات






        • الفصل السادس علوم الحديث






        • الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض






        • الفصل الثامن علم الفرائض






        • الفصل التاسع أصول الفقه






        • الفصل العاشر علم الكلام






        • الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية






        • الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه






        • الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام






        • الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب






        • الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة






        • الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا






        • الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها






        • الفصل العشرون العلوم العددية






        • الفصل الحادي والعشرون العلوم الهندسية






        • الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة






        • الفصل الثالث العشرون علم المنطق






        • الفصل الخامس والعشرون علم الطب






        • الفصل السادس والعشرون الفلاحة






        • الفصل السابع والعشرون علم الإلهيات






        • الفصل الثامن والعشرون علوم السحر والطلسمات






        • الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف







          • فصل في المقامات للنهاية






          • فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية






          • فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية







        • الفصل الثلاثون علم الكيمياء






        • الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها






        • الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها






        • الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها






        • الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم






        • الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات






        • الفصل السابع والثلاثون وطريق إفادته






        • الفصل الثامن والثلاثون






        • الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه






        • الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم






        • الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم






        • الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها






        • الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي







          • علم الأدب







        • الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية






        • الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة






        • الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار






        • الفصل التاسع والأربعون في تعلم اللسان المضري






        • الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم






        • الفصل الحادي والخمسون في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه






        • الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر






        • الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه






        • الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر






        • الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ






        • الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله








    • الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد








      • المقدمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم







        • الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه إلى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم







          • الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم






          • قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن







        • الخبر عن ملوك بابل من القبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة







          • الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة






          • الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدسة بالشام







        • الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت







          • الخبر عن ملوك بني إسرائيل بع الحكام ثم افتراق أمرهم






          • الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم بيت المقدس على سبط يهوذا وبنيمامين إلى انقراضه







        • الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم إلى حين انقراض أمرهم







          • الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول






          • ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس







        • المؤرخون أربع طبقات







          • الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية






          • الخبر عن دولة يونان والروم و أنسابهم ومصايرهم كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكاً وسلطاناً







        • الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان إلى
          انقراض أمرهم هؤلاء اليونانيون المتشبعون إلى الغريقيين واللطينيين







          • الخبر عن اللطينيين وهو الكيتم المعروفون بالروم من أمم يونان و أشياعهم وشعوبهم






          • الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل أفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون







        • الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبد أ أمورهم ومصاير أحوالهم







          • الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفحال ملكهم
            بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعده إلى انقراض
            أمرهم






          • الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم







        • الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالإندلس إلى حين الفتح الإسلامي وأولية ذلك ومصايره







          • الخبر عن هم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمرونها بالمشرق






          • الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش







        • الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم







          • الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها






          • الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الذي كان فيها







        • الخبر عن بطون كهلان







          • الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذرمن هذه الطبقة وكيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم






          • الخبر عن ذلك أن عدي بن زيد







        • الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم







          • الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قبيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة






          • الخبر عن بني عدنان وانسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام







        • الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة







          • المولد الكريم وبدء التوحيد






          • الهجرة







        • غزوة بني قينقاع







          • غزوة الغابة وذي قرد






          • فتح مكة







        • اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات







          • خبر العنسي






          • الخبر عن الخلافة الاسلامية في هذه الطبقة وما كان منها من الردة
            والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الاسلام ثم الاتفاق
            والجماعة







        • بعث الجيوش للمرتدة







          • فتح الحيرة






          • أخبار القادسية







        • فتح المدائن وجلولاء بعدها







          • غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة






          • فتح أذربيجان







        • فتح قبرص




    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الأربعاء ديسمبر 29, 2010 12:57 am

    الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية

    لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة
    عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في
    الأمرين‏:‏ أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها
    وحمل الناس عليها وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران
    البشري‏.‏ وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك
    لئلا يفسد إن أهملت وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح‏.‏ نعم
    إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح‏.‏ فقد
    صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها‏.‏ وقد
    ينفرد إذا كان في غير الملة‏.‏ وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة
    تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما
    يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم فيتم بذلك أمره ويحسن قيامه
    بسلطانه‏.‏ وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار
    الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء
    الإسلاميين‏.‏ فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة ونرجع إلى الخطط
    الملوكية السلطانية‏.‏ فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا
    والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة
    فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها
    لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ
    أحكام المشرع فيها على العموم‏.‏ فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط
    كلها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة‏.‏ ولقد يشهد لذلك
    استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على
    استخلافه في السياسة في قولهم‏:‏ ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
    لديننا أفلا نرضاه لدنيانا فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح
    القياس‏.‏ وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان‏:‏ مساجد عظيمة
    كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة وأخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست
    للصلوات العامة‏.‏ فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من
    يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس
    والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء‏.‏ وتعين ذلك إنما هو من طريق
    الأولى والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح
    العامة‏.‏ وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب
    الإمام لها عنده واجباً‏.‏ وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع
    إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان‏.‏ وأحكام هذه الولاية
    وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام
    السلطانية للماوردي وغيره فلا نطول بذكرها‏.‏ ولقد كان الخلفاء الأولون لا
    يقلدونها لغيرهم من الناس‏.‏ وانظر من طعن من إلى خلفاء في المسجد عند
    الأذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنهم
    لم يكونوا يستخلفون بها‏.‏ وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم
    استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها‏.‏ يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه‏:‏
    قد جعلت لك حجابة بابي إلا عن ثلائة‏:‏ صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير
    والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية‏.‏
    فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم
    ودنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصلوات
    العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويهاً‏.‏ فعل ذلك كثير من خلفاء بني
    العباس والعبيديين صدر دولتهم‏.‏ وأما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم
    والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلاً
    لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا
    يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس‏.‏ وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم
    وبثه والجلوس لذلك في المساجد‏.‏ فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان
    الولاية عليها أو النظر فى أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن
    كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك على إذن‏.‏ على أنه ينبغي أن يكون لكل
    أحد من المفتين والمدرسين زاجرمن نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل
    فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏"‏ أجرؤكم على الفتيا
    أجرؤكم على جراثيم جهنم ‏"‏‏.‏ فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه
    المصلحة من إجازة أو رد‏.‏ وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة
    لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع إلا
    أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة فكان لذلك من وظائف
    الخلافة ومندرجاً في عمومها‏.‏ وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه
    بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم‏.‏ وأول من دفعه إلى غيره وفوضه
    فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة وولى شريحاً بالبصرة
    وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة‏.‏ وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور
    عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه‏.‏ يقول‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإن القضاء
    فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا
    نفاذله وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا
    ييأس ضعيف من عدلك‏.‏ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‏.‏ والصلح
    جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً‏.‏ ولا يمنعك قضاء
    قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن
    الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ الفهم الفهم فيما
    تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة‏.‏ ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس
    الأمور بنظائرها‏.‏ واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه
    فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك
    وأجلى للعمى‏.‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً
    عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان
    ودرأ بالبينات‏.‏ وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في
    مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام ‏"‏‏.‏ انتهى كتاب
    عمر‏.‏ وإنما كانوا يقفدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم لقيامهم
    بالسياسة العامة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية
    البيضة ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية‏.‏ فاستحقوا القضاء في
    الواقعات بين الناس واستخلفو فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم‏.‏ وكانوا
    مع ذلك إنما يقفونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم
    في ذلك‏.‏ وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصاً كتب
    الأحكام السلطانية‏.‏ إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين
    الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء
    والملوك بالسياسة الكبرى‏.‏ واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع
    الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال
    المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه وفي وصايا
    المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنظر
    في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم
    والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من
    تعلقات وظيفته وتوابع ولايته‏.‏ وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي
    النظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء‏.‏ وتحتاج
    إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكأنه يمضي
    ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه‏.‏ ويكون نظره في البينات والتقرير
    واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصمين على
    الصلح واستحلاف الشهود وذلك أوسع من نظر القاضي‏.‏ وكان الخلفاء الأولون
    يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس رربما كانوا يجعلونها
    لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعله
    المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دواد‏.‏ وربما كانوا يجعلون
    للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف‏.‏ وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام
    المأمون بالصائفة إلى أرض الروم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر
    من بني أمية بالأندلس‏.‏ فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من
    يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب‏.‏ وكان أيضاً النظر في الجرائم
    وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس والعبيديين بمصر
    والمغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة وهي وظيفة آخرى دينية كانت من الوظائف
    الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة
    في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود
    الثابتة في محالها ويحكم في القود والقصاص ويقيم التعزير والتأديب في حق من
    لم ينته عن الجريمة‏.‏ ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في المولى التي تنوسي
    فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من
    الخليفة أو لم يكن‏.‏ وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين‏:‏ منها وظيفة التهمة على
    الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين ونصب لذلك في هذه
    الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية ويسمى تارة
    باسم الوالي وتارة باسم الشرطة‏.‏ وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في
    الجرائم الثابتة شرعاً فجمع للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته
    وولايته‏.‏ واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك‏.‏ وخرجت هذه الوظيفة عن أهل
    عصبية الدولة‏.‏ لأن الأمر لما كان خلافة دينية وهذه الخطة من مراسم الدين
    فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق
    أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه‏.‏ ولما انقرض شأن
    الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية
    بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثم خرج الأمر
    جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر فازدادت هذه الخطط
    الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها‏.‏ وذلك أن العرب كانوا يرونه أن
    الشريعة دينهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم
    بين الأمم وطريقهم وغيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما
    دانوا بالملة فقط‏.‏ فصاروا يقلدونها من غيرعصابتهم ممن كان تأهل لها في
    دول الخلفاء السالفة‏.‏ وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترف الدول منذ مئين
    من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم
    ودعتهم وقلة الممانعة عن أنفسهم وصارت هذه الخطط في المولى الملوكية من
    بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن
    مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من
    الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة البعداء عن عصبية الملك
    الذين هم عيال على الحامية وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة
    وأخذها بأحكام الشريعة لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها‏.‏ ولم يكن
    إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم وإنما هو لما يتلمح من التجمل
    بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية ولم يكن لهم فيها من الحل
    والعقد شيء وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه إذ حقيقة الحل والعقد إنما
    هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له ولا عقد لديه‏.‏ اللهم
    إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم وتلقي الفتاوى منهم فنعم‏.‏ والله الموفق‏.‏
    وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك وأن فعل الملوك فيما فعلوه من
    إخراح الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏
    العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏‏.‏ فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه‏.‏ وحكم الملك
    والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن
    السياسة‏.‏ فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى
    والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو
    ترك وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها وإنما
    هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره
    فيها‏!‏ اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في
    الاستفتاء خاصة‏.‏ وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية
    والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها‏.‏ وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك
    والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي
    جهة انتسب‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء
    ‏"‏ فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة
    أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات ينصونها
    على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها
    وفي بعض الأحوال‏.‏ والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين
    حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها‏.‏ فمن حملها اتصافاً وتحققاً
    دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري‏.‏ ومن اجتمع له الأمران
    فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة
    الأربعه ومن اقتفى طريقهم وجاء على آثرهم‏.‏ وإذا انفرد واحد من الأئمة
    بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد
    ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال ينصها
    علينا في كيفيات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا ‏"‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم
    ‏"‏‏.‏ العدالة وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه‏.‏ وحقيقة
    هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم
    تحملاً عند الإشهاد وأداء عند التنازع وكتباً في السجلات تحفظ به حقوق
    الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم‏.‏ وشرط هذه الوظيفة الاتصاف
    بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة
    عبارتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها فيحتاج
    حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه‏.‏ ولأجل هذه الشروط وما يحتاج إليه من
    المران على ذلك والممارسة له اختص ذلك ببعض العدول وصار الصنف القائمون به
    كأنهم مختصون بالعدالة وليس كذلك وإنما العدالة من شروط اختصاصهم
    بالوظيفة‏.‏ ويجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط
    العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة
    عليه في ذلك كله وهو ضامن دركه‏.‏ وإذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت
    الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه
    الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة
    فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف‏.‏ ولهم في سائر الأمصار
    دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد
    وتقييده بالكتاب‏.‏ وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي
    تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح‏.‏ وقد يتواردان
    ويفترقان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر
    بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين
    لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن
    المنكرات ويعزز ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في
    المدينة‏:‏ مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من
    الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة
    ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها
    في الإبلاع في ضربهم للصبيان المتعلمين‏.‏ ولا يتوقف حكمه على تنازع أو
    استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه‏.‏ وليس
    له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش
    وغيرها وفي المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف
    وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم‏.‏ وكأنها أحكام ينزه
    القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم
    بها‏.‏ فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء‏.‏ وقد كانت في كثير من
    الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في
    عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره‏.‏ ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن
    الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة وأما السكة فهي النظر في النقود
    المتعامل بها بين الناس وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل
    بها عدداً أو ما يتعلق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثم في وضع
    علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من
    خاتم حديد اتخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصة به فيوضع على الدينار بعد أن يقدر
    ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش وتكون علامة على جودته بحسب
    الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدولة
    الحاكمة فإن السبك والتخليص في النقود لا يقف عند غاية وإنما ترجع غايته
    إلى الاجتهادة فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها
    وسموها إماماً وعياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن
    ذلك كان زيفاً‏.‏ والنظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة‏.‏ وهي دييية بهذا
    الاعتبار فتندرج تحت الخلافة‏.‏ وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثم
    أفردت لهذا العهد كما وقع في الحسبة‏.‏ هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية
    وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانية‏:‏ فوظيفة
    الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانية نتكلم عليها في أماكنها بعد
    وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه
    وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد
    بطلت لدثور الخلافة ورسومها‏.‏ وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها
    في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد‏.‏ والله مصرف الأمور كيف
    يشاء‏.‏


    _______________________________________

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين

    [size=21]
    وأنه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر
    رضي الله عنه كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول
    الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك‏.‏ فلما بويع
    لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وأنه يتزايد فيما بعد
    دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التمييز بتعدد الأضافات وكثرتها
    فلا يعرف‏.‏ فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به
    مثله‏.‏ وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة‏.‏ وقد
    كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه وسلم أمير مكة وأمير الحجاز وكان
    الصحابة أيضاً يدعون واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير
    المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به يقال‏:‏ أن أول من دعاه بذلك
    عبد الله بن جحش وقيل‏:‏ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وقيل‏:‏ بريد جاء
    بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير
    المؤمنين وسمعها اصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنه والله أمير
    المؤمنين حقاً فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس‏.‏ وتوارثه الخلفاء من
    بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية‏.‏ ثم أن الشيعة
    خصوا علياً باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضاً
    بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصوه
    بهذا الفقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون
    بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون
    اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما
    زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له وعقدوا
    الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين‏.‏ وكذا
    الرافضة بإفريقية فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى
    انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام ولابنه أبي
    القاسم من بعده‏.‏ فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين‏.‏
    وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير
    المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق‏:‏ المواطن التي هي
    ديار العرب ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح‏.‏ وازداد كذلك في عنفوان
    الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من
    الاشتراك بينهم فاستحدث ذلك بنو العباس حجاباً لأسمائهم الأعلام عن
    امتهانها في السنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح والمنصور
    والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة‏.‏ واقتفى آثرهم في ذلك العبيديون
    بإفريقية ومصر وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة
    والسذاجة لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحول عنهم شعار
    البداوة إلى شعار الحضارة‏.‏ وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من
    أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة والبعد عن
    دار الخلافة التي هي مركز العصبية وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم
    من مهالك بني العباس‏.‏ حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم وهو
    الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط لأول
    المائة الرابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي
    وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى
    مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر
    لدين الله وأخذت من بعده عادة ومذهباً لقن عنه ولم واستمر الحال على ذلك
    إلى أن انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالي من العجم
    على بني العباس والصنائع على العبيديين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية
    وزناتة على المغرب وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموة
    وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص
    بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان‏.‏ فأما ملوك المشرق من العجم
    فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم
    وحسن ولايتهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة ونصير
    الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه‏.‏ وكان
    العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة‏.‏ فلما استبدوا على الخلافة قنعوا
    بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها وعدولاً عن سمتها
    المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل‏.‏ ونزع المتأخرون
    أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان
    وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك
    مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة
    بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون‏:‏
    صلاح الدين أسد الدين نور الدين‏.‏ وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا
    ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها
    فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف
    ينعى عليهم‏:‏ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب
    مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد وأما صنهاجة فاقتصروا
    على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه‏:‏ مثل نصير
    الدولة ومعز الدولة‏.‏ واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة
    العباسيين‏.‏ ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه
    الألقاب واقتصروا على اسم السلطان‏.‏ وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم
    ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة
    والغضاضة‏.‏ ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب من قبائل
    البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير
    والاقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه‏.‏
    فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه
    القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على مغرب وتقليده ذلك
    فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته
    وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفاً له واختصاصاً فاتخذها لقباً‏.‏ ويقال‏:‏
    إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدباً مع رتبة الخلافة لما كان
    عليه‏.‏ هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة‏.‏ وجاء المهدي
    على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب
    عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول إليه
    ذلك من التجسيم كما هو معروف من مذهب الأشعرية‏.‏ وسمى أتباعه الموحدين
    تعريضاً بذلك النكير‏.‏ وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا
    بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمي بالإمام لما قلناه
    أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشاعة إلى مذهبه في
    عصمة الإمام‏.‏ وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين
    من الشيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة
    يومئذ بالمشرق‏.‏ ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين وجرى
    عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثاراً به عمن
    سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده
    كذلك دون كل أحد لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها‏.‏ فكان ذلك دأبهم‏.‏ ولما
    انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة
    واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي
    كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم‏.‏ ثم نزع
    المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في
    منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏
    [/size]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الأربعاء ديسمبر 29, 2010 12:55 am

    الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
    اعلم أن البيعة هي العهد على
    الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمرنفسه وأمور
    المسلمين لا ينازغه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على
    المنشط والمكره‏.‏ وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في
    يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت
    البيعة مصافحة بالأيدي‏.‏ هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو
    المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند
    الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ ومنه بيعة الخلفاء‏.‏ ومنه أيمان البيعة‏.‏
    كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا
    الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب‏.‏ ولهذا لما أفتى
    مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في
    أيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه‏.‏ وأما البيعة
    المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو
    الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما
    كان هذا الخضوع في التحية والتزام الأداب من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب
    فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي
    الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين
    للرياسة وصون المنصب الملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك
    فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته‏.‏ فافهم معنى البيعة
    في العرف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه ولا
    تكون أفعاله عبثاً ومجاناً واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك‏.‏ والله القوي
    العزيز‏.‏ في ولاية العهد اعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما
    فيها من المصلحة وأن حقيقتها النظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم فهو
    وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد
    مماته ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في
    ذلك كما وثقوا به فيما قبل‏.‏ وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه
    وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله لعمر بمحضر من الصحابة وأجازوه
    وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم‏.‏ وكذلك عهد عمر في
    الشورى إلى الستة‏:‏ بقية العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم
    إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم
    متفقين على عثمان وعلى علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على
    لزوم الأقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك
    وأوجبوا طاعته‏.‏ والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد
    منهم‏.‏ فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته والإجماع
    حجة كما عرف‏.‏ ولا يتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه
    لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته
    خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون
    الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو
    إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً كما وقع في
    عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في
    الباب‏.‏ والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو
    مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد
    عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش
    وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم‏.‏ فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى
    بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي
    شأنه أهم عند الشارع وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة
    من سوى ذلك‏.‏ وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب
    فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذة العزة في قبول
    الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه‏.‏ وفرار عبد الله بن عمر
    من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو
    محظوراً كما هو معروف عنه‏.‏ ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق
    عليه الجمهور إلا ابن الزبير وندور المخالف معروف‏.‏ ثم إنه وقع مثل ذلك من
    بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك
    وسليمان من بني أمية والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس
    وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم ولا يعاب عليهم
    إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير
    شأن أولئك الخلفاء فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع
    دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه
    على غيره ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه وأما من بعدهم من لدن معاوية
    فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف واحتيج
    إلى الوازع السلطاني والعصباني‏.‏ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت
    ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف‏.‏ سأل
    رجل علياً رضي الله عنه‏:‏ ما بال المسلمين اختلفوا ا عليك ولم يختلفوا على
    أبي بكر وعمر فقال‏:‏ لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم
    وال على مثلك يشير إلى وازع الدين‏.‏ أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي
    بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته
    وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد
    الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى
    بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف
    باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح
    ولكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده‏.‏ وأما أن يكون القصد
    بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله
    يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث
    بالمناصب الدينية‏.‏ والملك لله يؤتيه من يشاء‏.‏ وعرض هنا أمور تدعو
    الضرورة إلى بيان الحق فيها‏:‏ فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام
    خلافته‏.‏ فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه
    أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو
    أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة‏.‏ ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق
    اختلف الصحابة حينئذ في شأنه‏.‏ فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من
    أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في
    ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن
    الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد
    من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهي أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم
    فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه وهذا كان
    شأن جمهور المسلمين‏.‏ والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين
    فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم‏.‏ والأمر
    الثاني هو شأن العهد من النبي صلى الله عليه وسلم وما تدعيه الشيعة من
    وصيته لعلي رضي الله عنه‏.‏ وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل
    والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من
    ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في
    العهد فقال‏:‏ أن أعهد لقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر وأن أترك فقد
    ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد‏.‏ وكذلك قول علي
    للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه وسلم
    يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى علي من ذلك وقال‏:‏ إنه إن منعنا منها فلا
    نطمع فيها آخر الدهر وهذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص ولا عهد إلى
    أحد‏.‏ وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما
    يزعمون وليس كذلك وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق‏.‏ ولو
    كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما واحتجاج
    الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله
    صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم
    تقع‏.‏ ويدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهماً كما هو
    اليوم وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن
    يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من
    تأليف القلوب عليه واستماتة الناس دونه وذلك من أجل الأحوال التي كانوا
    يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله
    في كل حادثة تتلى عليهم‏.‏ فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من
    صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال
    الإلهية الواقعة والملائكة المترددة التي وجموا منها ودهشوا من تتابعها‏.‏
    فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك
    القبيل كما وقع‏.‏ فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء
    القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق
    وصار الحكم للعادة كما كان‏.‏ فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ
    عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهماً من
    المهمات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل‏.‏ فانظر كيف كانت الخلافة
    لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها‏.‏ ثم تدرجت الأهمية
    زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن
    الردة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر رضي الله
    عنه‏.‏ ثم صارت اليوم من أهم الأمور للألفة على الحماية والقيام بالمصالح
    فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل ومنشأ الاجتماع
    والتوافق الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها‏.‏ والأمر الثالث شأن الحروب
    الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين‏.‏ فاعلم أن اختلافهم إنما يقع
    في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة
    والمجتهدون إذا اختلفوا‏:‏ فإن قلنا أن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من
    الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطىء فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على
    احتمال الإصابة ولا يتعين المخطىء منها والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً
    وإن قلنا أن الكل على حق وأن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم‏.‏
    وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية
    ظنية‏.‏ وهذا حكمه‏.‏ والذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة علي مع
    معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزبير
    مع عبد الملك‏:‏ فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في
    الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي‏.‏ والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف
    حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد
    والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدري وكعب
    بن عجرة وكعب بن مالك والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت ومسلمة بن مخلد
    وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة‏.‏ والذين كانوا في الأمصار
    عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى
    بين المسلمين لمن يولونه‏.‏ وظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من
    قاتليه لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك‏.‏ ولقد كان معاوية إذا صرح
    بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط‏.‏ ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن
    بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة‏:‏
    دار النبي صلى الله عليه وسلم وموطن الصحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم
    عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك‏.‏ ورأى الأخرون
    أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالأفاق ولم يحضر إلا
    قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد ولا تلزم بعقد من تولاها
    من غيرهم أو من القليل منهم وأن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم
    عثمان ثم يجتمعون على إمام‏.‏ وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم
    المؤمنين عائشة والزبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمد وسعد وسعيد
    والنعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصحابة الذين
    تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا‏.‏ إلا أن أهل العصر الثاني من
    بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رايه
    فيما ذهب إليه وتعين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصاً طلحة
    والزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل
    من الفريقين كالشأن في المجتهدين‏.‏ وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني
    على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف‏.‏ ولقد سئل علي رضي الله عنه
    عن قتلى الجمل وصفين فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء
    وقلبه نقي إلا دخل الجنة ‏"‏ يشير إلى الفريقين نقله الطبري وغيره‏.‏ فلا
    يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت
    وأقوالهم وأفعالهم إنما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة
    إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق ولا
    عرج عليه‏.‏ وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في
    عثمان واختلاف الصحابة من بعد وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة
    بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار
    على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر‏.‏ وكان أكثر العرب الذين نزلوا
    هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا هذبتهم
    سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء
    والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان‏.‏ وإذا بهم عند استفحال الدولة
    قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل
    الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغضوا به لما
    يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والروم مثل قبائل
    بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس
    من مضر‏.‏ فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم
    والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن
    السوية والعدل في القسم عن التسوية وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة
    وهم من علمت‏.‏ فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له
    الخبر‏.‏ بعث ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا
    على الأمراء شيئاً ولا رأوا عليهم طعناً وأدوا ذلك كما علموه‏.‏ فلم ينقطع
    الطعن من أهل الأمصار‏.‏ وما زالت الشناعات تنمو‏.‏ ورمي الوليد بن عقبة
    وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله‏.‏ ثم
    جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال وشكوا إلى عائشة وعلي
    والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمال‏.‏ فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد
    سعيد بن العاص وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوة بالطريق وردوه معزولاً‏.‏
    ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة ونقموا عليه
    امتناعه عن العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة‏.‏ ثم نقلوا النكير إلى غير
    ذلك من أفعاله وهو متمسك بالاجتهاد وهم أيضاً كذلك‏.‏ ثم تجمع قوم من
    الغوغاء وجاؤوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف
    ذلك من قتله‏.‏ وفيهم من البصرة والكوفة ومصر‏.‏ وقام معهم في ذلك علي
    وعائشة والزبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى
    رأيهم‏.‏ وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً‏.‏ ثم رجعوا وقد لبسوا بكتاب
    مدلس يزعمون أنهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على
    ذلك فقالوا‏:‏ مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال عثمان ليس في
    الحكم أكثر من هذا‏.‏ فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس وقتلوه
    وانفتح باب الفتنة‏.‏ فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع وكلهم كانوا مهتدين بأمر
    الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته‏.‏ ثم نظروا بعد هذا الواقع
    واجتهدوا‏.‏ والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم‏.‏ ونحن لا نظن بهم إلا
    خيراً لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصادق فيهم‏.‏ وأما الحسين فإنه لما
    ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين
    أن يأتيهم فيقوموا بأمره‏.‏ فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل
    فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته وشوكته‏.‏ فأما
    الأهلية فكانت كما ظن وزيادة‏.‏ وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن
    عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت
    في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول
    الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة
    لنصرة المسلمين‏.‏ فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها
    ونسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة
    الدين وجهاد المشركين والدين فيها محكم والعادة معزولة‏.‏ حتى إذا انقطع
    أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية
    كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك
    قبل‏.‏ فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه‏.‏
    وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة على
    ذلك‏.‏ ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره
    في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عما هو وأما غير الحسين
    من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم
    فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج
    والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثموه لأنه
    مجتهد وهو أسوة المجتهدين‏.‏ ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء
    بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم
    يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه
    ويقول‏:‏ ‏"‏ سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن
    سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم‏.‏ ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض
    لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعلة عن اجتهاد منه‏.‏ وكذلك لا
    يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على
    اجتهاد ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي الحنفي على شرب النبيذ‏.‏ واعلم
    أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن
    اجتهادهم وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه‏.‏ ولا تقولن إن يزيد وإن كان
    فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة‏.‏ واعلم أنه إنما
    ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً‏.‏ وقتال البغاة عندهم من شرطه أن
    يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد
    ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه والحسين فيها شهيد وقد غلط القاضي
    أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم
    والقواصم ما معناه أن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته عليه الغفلة عن
    اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في
    قتال أهل الأراء‏!‏‏.‏ وأما ابن الزبير فإنه رأى في قيامه ما رآه الحسين
    وظن كما ظن وغلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في
    جاهلية ولا إسلام‏.‏ والقول بتعين الخطأ في جهة مخالفة كما كان في جهة
    معاوية مع علي لا سبيل إليه لأن الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده ههنا‏.‏
    وأما يزيد فعين خطأه فسقه‏.‏ وعبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة
    وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن
    ابن الزبير وهم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة
    ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد والحل كبيعة مروان وابن
    الزبير على خلاف ذلك والكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر وإن لم
    يتعين في جهة منهما‏.‏ والقتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على
    قواعد الفقه وقوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق‏.‏ هذا هو
    الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين فهم خيار الأمة
    وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة والنبي صلى الله عليه
    وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو
    الكذب ‏"‏ فجعل الخيرة وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه‏.‏ فإياك
    أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما
    وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحق وطرقة ما استطعت فهم أولى الناس بذلك وما
    اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق
    واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن
    يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله‏.‏ فافهم ذلك وتبين حكمة الله في
    خلقه وأكوانه واعلم أنه على كل شيء قدير وإليه الملجأ والمصير‏.‏ والله
    تعالى أعلم‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الأربعاء ديسمبر 29, 2010 12:53 am

    الفصل السابع والعشرون في الشيعة


    اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من
    الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم‏.‏ ومذهبهم جميعاً متفقين
    عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين
    القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله
    ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من
    الكبائر والصغائر وأن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه
    عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة
    ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم
    الفاسدة‏.‏ وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي‏:‏ فالجلي مثل قوله‏:‏
    ‏"‏ من كنت مولاه فعلي مولاه ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولم تطرد هذه الولاية إلا في
    علي ولهذا قال له عمر‏:‏ ‏"‏ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة ‏"‏‏.‏ ومنها
    قوله‏:‏ أقضاكم علي ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله وهو المراد
    بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله‏:‏ ‏"‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
    الأمر منكم ‏"‏ والمراد الحكم والقضاء‏.‏ ولهذا كان حكماً في قضية الإمامة
    يوم السقيفة دون غيره‏.‏ ومنها قوله‏:‏ ‏"‏ من يبايعني على روحه وهو وصي
    وولي هذا الأمر من بعدي ‏"‏ فلم يبايعه إلا علي‏.‏ ومن الخفي عندهم بعث
    النبي صلى الله عليه وسلم علياً لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت
    فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك فبعث
    علياً ليكون القارىء المبلغ‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على تقديم علي‏.‏ وأيضاً
    فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي‏.‏ وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في
    غزاتين أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص اخرى‏.‏ وهذه كلها أدلة شاهدة
    بتعين علي للخلافة دون غيره‏.‏ فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن
    تأويلهم‏.‏ ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي وتشخيصه وكذلك
    تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية ويتبرؤون من الشيخين حيث لم
    يقدموا علياً ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص ويغمصون في إمامتهما‏.‏ ولا يلتفت
    إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم‏.‏ ومنهم من
    يقول‏:‏ أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص والناس
    مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزيدية ولا يتبرؤون من الشيخين
    ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة
    المفضول مع وجود الأفضل‏.‏ ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة
    بعد علي‏:‏ فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على
    ما يذكر بعد وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام
    وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن
    بالاختيار من الشيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداً
    شجاعاً داعياً إلى إمامته وهؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد
    بن علي بن الحسين السبط وقد كان يناظر أخاه محمداً الباقر على اشتراط
    الخروح في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماماً
    لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج‏.‏ وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة
    وأخذه إياها عن واصل بن عطاء‏.‏ ولما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين
    ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمة وبذلك
    سموا رافضة‏.‏ ومنهم من ساقها بعد علي وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك
    إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان
    مولاه‏.‏ وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً‏.‏ ومنهم طوائف
    يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة‏.‏
    إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات ألوهية أو أن الإله حل في ذاتهم البشرية
    وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه‏.‏ ولقد حرق
    علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخط محمد بن الحنفية
    المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه وكذلك
    فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه‏.‏ ومنهم من
    يقول‏:‏ أن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر
    ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتناسخ‏.‏ ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند
    واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم وهؤلاء هم
    الواقفية‏.‏ فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس
    ويستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه وإنه في السحاب
    والرعد صوته والبرق في سوطه‏.‏ وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وإنه في
    جبل رضوى من أرض الحجاز وقال شاعرهم‏:‏ ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق
    أربعة سواء‏:‏ علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط
    إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لايذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه
    اللواء تغيب لايرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء وقال مثله غلاة
    الإمامية وخصوصاً الاثني عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو
    محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم بالحلة وتغيب
    حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً يشيرون
    بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي وهم إلى الآن ينتظرونه
    ويسمونة المنتظر لذلك ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب
    وقد قوموا مركباً فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون
    ويرجئون الأمر إلى الليلة الأتية وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ وبعض هؤلاء
    الواقفية يقول‏:‏ أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا‏.‏ ويستشهدون
    لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف والذي مر على قرية وقتيل
    بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها‏.‏ ومثل ذلك من
    الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة ولا يصح الاستشهاد بها في غير
    مواضعها‏.‏ وكان من هؤلاء السيد الحميري ومن شعره في ذلك‏:‏ إذا ما المرء
    شاب له قذال وعلله المواشط بالخضاب فقد ذهبت بشاشته وأودى فقم ياصاح نبك
    على الشباب إلى يوم تؤوب الناس فيه إلى دنيا همو قبل الحساب فليس بعائد ما
    فات منه إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأن ذلك دين حق وما أنا في النشور بذي
    ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التراب وأما الكيسانية
    فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم
    الهاشمية‏.‏ ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه
    الحسن بن علي‏.‏ وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من
    الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأوصى محمد إلى ابنه
    إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثية
    الملقب بالسفاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور
    وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم‏.‏ وهذا مذهب
    الهاشمية القائمين بدولة بني العباس‏.‏ وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثير
    وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شيعة العباسية‏.‏ وربما يعضدون ذلك بأن حقهم
    في هذا الأمر يصل إليهم من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة وهو أولى
    بالوراثة بعصبية العمومة‏.‏ وأما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها
    وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص‏.‏ فقالوا بإمامة علي ثم ابنه
    الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه زيد بن علي وهو
    صاحب هذا المذهب‏.‏ وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة‏.‏
    وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان
    بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط ويقال له النفس
    الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى
    أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور
    عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله وهي
    معدودة في كراماته‏.‏ وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله
    النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر وعمر هوأخو زيد بن علي فخرج
    محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في
    حبسه‏.‏ وقال آخرون من الزيدية‏:‏ أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى
    الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع المنصور ونقلوا الإمامة في
    عقبه وإليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وقال آخرون من
    الزيدية‏:‏ أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب
    ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس وكان من بعده عقبه
    ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وبقي أمر الزيدية
    بعد ذلك غير منتظم‏.‏ وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد
    بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط وأخوه محمد بن
    زيد‏.‏ ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم وأسلموا على يده
    وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه
    بطبرستان دولة وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء
    ببغداد كما نذكر في أخبارهم‏.‏ وأما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضا
    إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين
    ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق‏.‏ ومن هنا افترقوا
    فرقتين‏:‏ فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم
    الإسماعيلية وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم
    عند الثاني عشر من الأئمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر‏.‏ فأما
    الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر‏.‏ وفائدة
    النص عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه
    كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما‏.‏ قالوا‏:‏ ثم انتقلت الإمامة من
    إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم
    قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق وإذا
    كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته‏.‏ قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق
    وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهدي
    الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة وتتابع الناس على دعوته ثم
    أخرجه من معتقله ويسمى هؤلاء الإسماعيلية نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل
    ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمون
    أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد‏.‏ ولهم مقالات قديمة ومقالات
    جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة وملك حصوناً
    بالشام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك
    بمصر وملوك التتر بالعراق فانقرضت‏.‏ ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في
    كتاب الملل والنحل للشهرستاني‏.‏ وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية
    عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه
    الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه
    علي الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر ثم ابنه محمد
    التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري ثم ابنه محمد
    المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل‏.‏ وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة
    اختلاف كثيرة إلا أن هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه
    بكتاب ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ لابن حزم والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان
    ذلك‏.‏ والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العلي
    الكبير‏.‏ في انقلاب الخلافة إلي الملك اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية
    ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل
    وأن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ
    المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم
    أمر الله منها‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه
    ‏"‏‏.‏ ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال‏:‏
    ‏"‏ إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من
    تراب ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم
    ‏"‏‏.‏ ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من
    الاستمتاع بالخلاق والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله‏.‏ وإنما حض
    على الألفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة‏.‏ واعلم أن الدنيا كلها
    وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية فقد الوصول‏.‏ وليس مراده
    فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو
    اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها
    في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً وتتحد الوجهة كما
    قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى
    الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى
    ما هاجر إليه ‏"‏‏.‏ فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت
    منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد إعلاء كلمة الله وإنما
    يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا
    كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً وهو من شمائله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان
    نقصاً في حقه وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح
    ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية وكذا العصبية حيث ذمها
    الشارع وقال‏:‏ ‏"‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم
    ‏"‏ فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في
    الجاهلية وأن يكون لأحد فخربها أو حق على أحد لأن ذلك مجان من أفعال
    العقلاء وغير نافع في الأخرة التي هي دار القرار‏.‏ فأما إذا كانت العصبية
    في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم
    قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل‏.‏ وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم
    منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه
    من التغلب بالباطل وتصريف الأدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه‏.‏ فلو
    كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحملهم على وقد قال سليمان صلوات
    الله عليه‏:‏ ‏"‏ رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي
    ‏"‏ لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك‏.‏ ولما لقي
    معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك
    وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال‏:‏ ‏"‏ أكسروية يا معاوية ‏"‏
    فقال‏.‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم
    بزينة الحرب والجهاد حاجة ‏"‏ فسكت ولم يخطئة لما احتج عليه بمقصد من مقاصد
    الحق والدين‏.‏ فلو كان القصد رفض الملك أصله لم يقنعه هذا الجواب في تلك
    الكسروية وانتحالها بل كان يحرض على وجه عنها بالجملة‏.‏ وإنما أراد عمر
    بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظلم والبغي
    وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس
    وباطلهم وإنما قصده بها وجه الله فسكت‏.‏ وهكذا كان شأن الصحابة في رفض
    الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل‏.‏ فلما استحضر
    رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور
    الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر
    للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين‏.‏
    فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع
    العرب على الإسلام‏.‏ ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن
    للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه
    منهم‏.‏ ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضي الله عنهما والكل
    متبرئون من الملك متنكبون على طرقه‏.‏ وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من
    غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها
    لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم ولا من حيث بداوتهم‏.‏
    ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه‏.‏ فلم تكن أمة
    من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع
    وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة
    واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب
    والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم
    ويطبخونه‏.‏ وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم‏.‏ حتى إذا
    اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه
    وسلم زحفوا إلى أمم فارس والروم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد
    الصدق‏.‏ فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان
    الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها‏.‏
    فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر‏.‏ وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان
    عمر يرقع ثوبه بالجلد وكان علي يقول‏:‏ ‏"‏ يا صفراء وبا بيضاء غري غيري
    ‏"‏‏.‏ وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها
    يومئذ‏.‏ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنما كانوا يأكلون الحنطة
    بنخالها‏.‏ ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم‏.‏ قال
    المسعودي‏:‏ في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان له يوم قتل
    عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى
    وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة‏.‏ وبلغ الثمن
    الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخفف ألف فرس وألف
    أمة‏.‏ وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من
    ذلك‏.‏ وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة ألاف
    من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً‏.‏ وخلف زيد
    بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال
    والضياع بمائة ألف دينار‏.‏ وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر
    والكوفة والإسكندرية‏.‏ وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة
    وبناها بالجص والآجر والساج‏.‏ وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع
    سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات‏.‏ وبني المقداد داره بالمدينة
    وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً
    وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ كلام المسعودي‏.‏ فكانت مكاسب
    القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم إذ هي أموال لأنها غنائم
    وفيوء ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما
    قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما
    يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد‏.‏ وإذا كان حالهم
    قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق
    الحق واكتساب الدار الأخرة‏.‏ فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها
    وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان
    حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك
    التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق‏.‏ ولما وقعت
    الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد
    ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد
    يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد‏.‏ وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل
    واحد نظر صاحبه باجتهاد في الحق فاقتتلوا عليه‏.‏ وإن كان المصيب علياً فلم
    يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق وأخطأ‏.‏ والكل كانوا
    في مقاصدهم على حق‏.‏ ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار
    الواحد به‏.‏ ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي
    ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية ومن لم يكن على طريقة معاوية في
    اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه‏.‏ ولم حملهم
    معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق
    الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة‏.‏
    وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن
    أبي بكر‏:‏ ‏"‏ لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة ولو أراد أن يعهد
    إليه لفعل ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه فلا يقدر
    أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة‏.‏ وهذا كله إنما حمل عليه منازع
    الملك التي هي مقتضى العصبية‏.‏ فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به
    وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه‏.‏ ولقد انفرد سليمان
    وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك
    فيهم من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبوة والحق‏.‏ وكذلك عهد معاوية
    إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر
    إلى من سواهم‏.‏ فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به
    صالحاً ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظن بمعاوبة غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو
    يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا لله لمعاوية من ذلك‏.‏ وكذلك كان مروان بن
    الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة
    والبغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها
    مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد‏.‏ يشهد لذلك ما
    كانوا عليه من الاتباع والاقتداء وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد
    احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك‏.‏ وأما مروان فكان من الطبقة الأولى
    من التابعين وعدالتهم معروفة‏.‏ ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من
    الدين بالمكان الذي كانوا عليه‏.‏ وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى
    طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل‏.‏ ثم جاء خلفهم واستعملوا
    طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري
    القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها‏.‏ فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن
    نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم‏.‏ وولي رجالها الأمر
    فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا
    حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح‏.‏ ثم أفضى الأمر إلى
    بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين
    وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن
    سواهم منه‏.‏ والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء
    والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه‏.‏ وقد حكى
    المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته
    وذكروا بني أمية فقال‏:‏ ‏"‏ أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع
    وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه وأما عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل
    القوم هشام ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان
    يحوطونة ويصونون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور ورفضهم
    دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات
    وركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره مع اطراحهم صيانة
    الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة وضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز
    وألبسهم الذل ونفى عنهم النعمة ‏"‏‏.‏ ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص
    عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال‏:‏ ‏"‏ أقمت
    ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة فقلت له ما
    منعك من القعود على ثيابنا فقال‏:‏ إني ملك‏!‏ وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة
    الله إذ رفعه الله‏.‏ ثم قال‏:‏ لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في
    كتابكم فقلت‏:‏ اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تطؤون
    الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم قلت‏:‏ فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا
    بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في
    كتابكم قلت‏:‏ ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا
    ذلك على الكره منا‏.‏ فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول‏:‏ عبيدنا وأتباعنا
    وأعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ ‏"‏ ليس كما ذكرت‏!‏ بل
    أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما
    ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم‏.‏ ولله نقمة لم تبلغ غايتها
    فيكم‏.‏ وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم‏.‏ وإنما
    الضيافة ثلاث‏.‏ فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي‏.‏ فتعجب المنصور
    وأطرق‏.‏ فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأن الأمر كان في أوله
    خلافة ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم
    وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة‏.‏ فهذا عثمان لما حصر في الدار
    جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة
    عنه فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للألفة التي
    بها حفظ الكلمة ولو أدى إلى هلاكه‏.‏ وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول
    ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على
    بيعته وتتفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك
    فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام‏.‏ وغدا عليه المغيرة من الغداة
    فقال‏:‏ لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من
    الحق والنصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي‏:‏ لا والله بل أعلم أنك
    نصحتني بالأمس وغششتني اليوم‏.‏ ولكن منعني مما أشرت به ذائد الحق‏.‏ وهكذا
    كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن‏:‏ نرقع دنيانا بتمزيق
    ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت
    معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر
    التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً‏.‏ وهكذا كان
    الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني
    العباس إلى الرشيد وبعض ولده‏.‏ ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها
    وصار الأمر ملكاً بحتاً وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها
    من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ‏.‏ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك
    ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية
    العرب‏.‏ والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض‏.‏ ثم ذهب رسم
    الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر
    ملكا بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة
    تبركاً والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء‏.‏ وكذلك فعل
    ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع
    خلفاء بني أمية بالأندلس والعبيديين بالقيروان‏.‏ فقد تبين أن الخلافة قد
    وجدت بدون الملك أولاً ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث
    افترقت عصبيته من عصبية الخلافة‏.‏ والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد
    القهار‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الأربعاء ديسمبر 29, 2010 12:49 am

    [b]تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي

    وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية‏.‏ فإذا
    اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي
    والتحموا بهم كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك
    العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية
    مساهمة في نسبها كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مولى القوم منهم ‏"‏
    وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف وليس نسب ولادته بنافع له في تلك
    العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند
    التحامه بهذا النسب الآخر وفقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء ويندرج
    فيهم‏.‏ فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على
    نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل
    حال‏.‏ وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ
    في ولاء الدولة وخدمتها وتعدد الآباء في ولايتها‏.‏ ألا ترى إلى موالي
    الأتراك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا
    البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة‏.‏ فكان جعفر بن
    يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه
    لا بالانتساب في الفرس‏.‏ وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت
    والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها‏.‏ ويضمحل نسبه الأقدم من
    غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده‏.‏ وإنما المعتبر نسبة
    ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف فكان شرفه مشتقاً
    من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنما بنى مجدة نسب
    الولاء في الدولة ولحمة الاصطناع فيها والتربية‏.‏ وقد يكون نسبه الأول في
    لحمة عصبيته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى
    لذهاب عصبيتها‏.‏ وانتفع بالثانية لوجودها‏.‏ وهذا حال بني برمك إذ
    المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النارعندهم ولما صاروا
    إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم
    في الدولة واصطناعهم‏.‏ وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا
    حقيقة له‏.‏ والوجود شاهد بما قلناه‏.‏ و ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏‏.‏ والله ورسوله أعلم‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء

    اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله‏.‏
    فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات‏:‏ الإنسان وغيره كائنة فاسدة
    بالمعاينة‏.‏ وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصاً الإنسانية‏.‏ فالعلوم
    تنشأ ثم تدرس وكذا الصنائع وأمثالها‏.‏ والحسب من العوارض التي تعرض
    للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة‏.‏ وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف
    متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
    كرامة به وحياطة على السر فيه‏.‏ وأول كل شرف خارجية كما قيل وهي الخروج
    عن الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب ومعناه أن كل شرف وحسب
    فعدمه سابق عليه شأن كل محدث‏.‏ ثم إن نهايته أربعة آباء وذلك أن باني
    المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه
    وبقائه‏.‏ وابنه من بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلأ انه
    مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له‏.‏ ثم إذا جاء الثالث كان
    حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد‏.‏ ثم
    إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم
    واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب
    لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من
    التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط
    فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من
    استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم
    والأخذ بمجامع قلوبهم‏.‏ فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه
    سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبييهم كما
    قلناه‏.‏ بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله‏.‏ فتنمو فروع هذا وتذوي فروع
    الأول وينهدم بناء بيته‏.‏ هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء
    وأهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى
    من ذلك النسب‏:‏ ‏"‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز
    ‏"‏‏.‏ واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلأ فقد يدثر البيث
    من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم‏.‏ وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا
    أنه في انحطاط وذهاب‏.‏ واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر
    له ومقلد وهادم‏.‏ وهو أقل ما يمكن‏.‏ وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب
    في باب المدح والثناء‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما الكريم ابن
    الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ‏"‏ إشارة
    إلى أنه بلغ الغاية من المجد‏.‏ وفي التوراة ما معناه‏:‏ أنا الله ربك طائق
    غيورمطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن
    الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب‏.‏ ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف
    الغواني أن كسرى قال للنعمان‏:‏ هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة‏.‏
    قال‏:‏ نعم قال‏:‏ بأي شيء قال‏:‏ من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم
    اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة
    بن بدر الفزاري وهم بيت قيس وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من
    كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء
    الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول‏.‏ فقام حذيفة بن بدر
    ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن
    زرارة ثم قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا‏.‏ فقال كسرى‏:‏ كلهم سيد يصلح
    لموضعه‏.‏ وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت
    بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني‏.‏ وهذا كله يدل على أن الاربعة
    الآباء نهاية في الحسب‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها

    اعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة
    لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم اقدر على
    التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في
    ذلك باختلاف الأعصار‏.‏ فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد
    الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم
    وبداوتهم‏.‏ واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية
    والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في
    الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس
    وألف‏.‏ وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد‏.‏
    وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال
    أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في
    العدد وتكافآ في القوة والعصبية‏.‏ وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من
    حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق
    ونعيمه لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة
    النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم
    وانتزعوه منهم‏.‏ وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور
    من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا
    بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب
    الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم‏.‏ وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً
    وعيشاً خصباً دون الحي الآخر‏.‏ فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه
    إذا تكافآ في القوة والعدد‏.‏ سنة الله في خلقه‏.‏



    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك

    وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر
    يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع
    إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك
    العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك‏.‏ وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد
    على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في
    أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر‏.‏ وصاحب العصبية إذا بلغ إلى
    رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب
    والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس‏.‏ ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية
    التي يكون بها متبوعاً‏.‏ فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت‏.‏ ثم إن
    القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة فلا بد من عصبية
    تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير
    كأنها عصبية واحدة كبرى وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع‏:‏
    ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ‏"‏‏.‏ ثم إذا حصل
    التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى
    بعيدة عنها‏.‏ فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً ولكل واحدة
    منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم‏.‏
    وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها
    وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد‏.‏ وهكذا دائماً
    حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة‏:‏ فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها
    ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها
    وصار الملك أجمع لها وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة وإنما
    قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها
    تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها‏.‏ وذلك ملك آخر دون الملك المستبد وهو
    كما وقع للترك في دولة بني العباس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع
    ملوك الشيعة والعلوية والعباسية‏.‏ فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية
    وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة
    على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك‏.‏ وإن عاقها عن بلوغ الغاية


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف

    وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب
    استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم
    وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها‏.‏ فإن كانت
    الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن
    ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها
    ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنما همتهم النعيم
    والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب
    الملك في المباني والملابس والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من
    الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك‏.‏ فتذهب خشونة البداوة وتضعف
    العصبية والبسالة ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة‏.‏ وتنشأ بنوهم
    وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن
    سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص
    عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون
    بالانقراض‏.‏ وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن
    الملك فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها
    التغلب‏.‏ وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن
    المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم‏.‏ فقد تبين أن الترف من عوائق الملك‏.‏
    والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏ تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل


    والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية
    وشدتها فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا
    عن المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة
    والمطالبة‏.‏ واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى
    ملك الشام وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا‏:‏
    ‏"‏ إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها
    ‏"‏ ي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك
    يا موسى‏.‏ ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له‏:‏ ‏"‏ اذهب أنت وربك فقاتلا
    ‏"‏‏.‏ وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة
    كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد
    وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم
    يؤمنوا حق الإيمان بما خبرهم به موسى من أن الشام لهم وأن العمالقة الذين
    كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا
    تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق
    المذلة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به‏.‏ فعاقبهم الله
    بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم
    يأووا فيها لعمران ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة
    العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه‏.‏
    ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل
    الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى
    نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة
    فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب‏.‏ ويظهر لك من
    ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر‏.‏ سبحان
    الحكيم العليم‏.‏ وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون
    بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك
    كله‏.‏ ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب‏.‏
    فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في
    المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلأ إذا استهونته
    عن القتل والتلف وأن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت
    عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة قد حصل له الانقياد
    للذل والمذلة عائقة كما قدمناه‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في شأن
    الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم
    إلا دخلهم الذل ‏"‏ فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للمذلة‏.‏ هذا إلى ما
    يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر‏.‏ فإذا رأيت
    القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر‏.‏ ومن هنا
    يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان
    على عهدهم من الملوك‏.‏ وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم
    ملك ولا تمت لهم دولة‏.‏ وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن
    بن ربيعة لما أطل عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال‏:‏ أنا
    اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري معكم فمرحباً بكم وبارك الله لنا ولكم
    وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحبون ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا
    لعدوكم‏.‏ فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس

    لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان
    الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة
    العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه وأما من حيث
    هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسياسة إنما كانا له من حيث
    هو إنسان لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب
    السياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسياسة‏.‏ وقد ذكرنا أن المجد له أصل
    ينبني عليه وتتحقق به حقيقتة وهو العصبية والعشير وفرع يتم وجوده ويكفله
    وهو الخلال‏.‏ وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي
    الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً
    بين الناس‏.‏ وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة
    نقصاً في أهل البيوت والأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد
    ونهاية لكل حسب‏.‏ وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في
    العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير
    ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع وأحكام البشر إنما هي من الجهل
    والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنه فاعل للخير والشر معاً
    ومقدرهما إذ لا فاعل سواه‏.‏ فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست
    منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في
    العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصلاحية لذلك‏.‏ وهذا البرهان أوثق من
    الأول وأصح مبنى‏.‏ فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له
    العصبية‏.‏ فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من
    النواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن
    الزلات والاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف وحمل الكل وكسب المعدم
    والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم
    الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو
    ترك وحسن الظن بهم واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ورغبة الدعاء منهم
    والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحق مع
    الداعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتبذل في أحوالهم والانقياد
    للحق والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتدين بالشرائع والعبادات
    والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد
    وأمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن
    يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم
    مناسب لعصبيتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثاً منهم والملك أنسب
    المراتب والخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه
    إليهم‏.‏ وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على
    ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم
    جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم
    ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك وجعل في أيديهم من
    الخير‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً
    ‏"‏‏.‏ واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه
    ورسمناه‏.‏ والله يخلق ما يشاء ويختار‏.‏ واعلم أن من خلال الكمال التي
    يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء
    والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس
    منازلهم‏.‏ وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في
    الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمم طبيعي
    يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس
    مثلها منه‏.‏ وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى
    فيندفع الشك في شأن كرامتهم ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد وانتحال الكمال في
    الخلال والإقبال على السياسة بالكلية‏.‏ لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري
    في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطارئين من أهل الفضائل
    والخصوصيات كمال في السياسة العامة‏.‏ فالصالحون للدين والعلماء للجأ إليهم
    في إقامة مراسم الشريعة والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم
    والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من
    العدل‏.‏ فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك
    وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها‏.‏ ولهذا كان أول ما يذهب
    من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا
    الصنف من الخلق‏.‏ فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد
    أخذت في الذهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم‏:‏ ‏"‏ لَهُ
    مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ
    أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
    يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا
    فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ‏"‏‏.‏ والله
    تعالى أعلم في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر
    على التغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطوائف لقدرتهم على محاربة
    الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم
    وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام
    من صنهاجة‏.‏ وأيضا فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد
    يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء‏.‏ فلهذا لا يقتصرون
    على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يطفرون
    إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على اللأمم النائية‏.‏ وانظر ما يحكى في ذلك
    عن عمر رضى الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال‏:‏ أن
    الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين
    القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب
    أن يورثكموها فقال‏:‏ ‏"‏ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
    ‏"‏‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة وحمير
    كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى‏.‏ ولم
    يكن ذلك لغير العرب من الأمم‏.‏ وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى
    الملك طفروا من الإقليم الأول ومجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم
    الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة‏.‏ وهذا شأن هذه الأمم
    الوحشية‏.‏ فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً وأبعد من مراكزها نهاية‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار لا شريك له‏.‏
    [/b]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الأربعاء ديسمبر 29, 2010 12:21 am

    [b]تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي

    وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية‏.‏ فإذا
    اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي
    والتحموا بهم كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك
    العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية
    مساهمة في نسبها كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مولى القوم منهم ‏"‏
    وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف وليس نسب ولادته بنافع له في تلك
    العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند
    التحامه بهذا النسب الآخر وفقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء ويندرج
    فيهم‏.‏ فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على
    نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل
    حال‏.‏ وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ
    في ولاء الدولة وخدمتها وتعدد الآباء في ولايتها‏.‏ ألا ترى إلى موالي
    الأتراك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا
    البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة‏.‏ فكان جعفر بن
    يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه
    لا بالانتساب في الفرس‏.‏ وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت
    والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها‏.‏ ويضمحل نسبه الأقدم من
    غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده‏.‏ وإنما المعتبر نسبة
    ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف فكان شرفه مشتقاً
    من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنما بنى مجدة نسب
    الولاء في الدولة ولحمة الاصطناع فيها والتربية‏.‏ وقد يكون نسبه الأول في
    لحمة عصبيته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى
    لذهاب عصبيتها‏.‏ وانتفع بالثانية لوجودها‏.‏ وهذا حال بني برمك إذ
    المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النارعندهم ولما صاروا
    إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم
    في الدولة واصطناعهم‏.‏ وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا
    حقيقة له‏.‏ والوجود شاهد بما قلناه‏.‏ و ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏‏.‏ والله ورسوله أعلم‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء

    اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله‏.‏
    فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات‏:‏ الإنسان وغيره كائنة فاسدة
    بالمعاينة‏.‏ وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصاً الإنسانية‏.‏ فالعلوم
    تنشأ ثم تدرس وكذا الصنائع وأمثالها‏.‏ والحسب من العوارض التي تعرض
    للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة‏.‏ وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف
    متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
    كرامة به وحياطة على السر فيه‏.‏ وأول كل شرف خارجية كما قيل وهي الخروج
    عن الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب ومعناه أن كل شرف وحسب
    فعدمه سابق عليه شأن كل محدث‏.‏ ثم إن نهايته أربعة آباء وذلك أن باني
    المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه
    وبقائه‏.‏ وابنه من بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلأ انه
    مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له‏.‏ ثم إذا جاء الثالث كان
    حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد‏.‏ ثم
    إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم
    واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب
    لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من
    التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط
    فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من
    استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم
    والأخذ بمجامع قلوبهم‏.‏ فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه
    سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبييهم كما
    قلناه‏.‏ بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله‏.‏ فتنمو فروع هذا وتذوي فروع
    الأول وينهدم بناء بيته‏.‏ هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء
    وأهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى
    من ذلك النسب‏:‏ ‏"‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز
    ‏"‏‏.‏ واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلأ فقد يدثر البيث
    من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم‏.‏ وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا
    أنه في انحطاط وذهاب‏.‏ واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر
    له ومقلد وهادم‏.‏ وهو أقل ما يمكن‏.‏ وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب
    في باب المدح والثناء‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما الكريم ابن
    الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ‏"‏ إشارة
    إلى أنه بلغ الغاية من المجد‏.‏ وفي التوراة ما معناه‏:‏ أنا الله ربك طائق
    غيورمطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن
    الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب‏.‏ ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف
    الغواني أن كسرى قال للنعمان‏:‏ هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة‏.‏
    قال‏:‏ نعم قال‏:‏ بأي شيء قال‏:‏ من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم
    اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة
    بن بدر الفزاري وهم بيت قيس وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من
    كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء
    الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول‏.‏ فقام حذيفة بن بدر
    ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن
    زرارة ثم قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا‏.‏ فقال كسرى‏:‏ كلهم سيد يصلح
    لموضعه‏.‏ وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت
    بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني‏.‏ وهذا كله يدل على أن الاربعة
    الآباء نهاية في الحسب‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها

    اعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة
    لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم اقدر على
    التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في
    ذلك باختلاف الأعصار‏.‏ فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد
    الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم
    وبداوتهم‏.‏ واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية
    والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في
    الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس
    وألف‏.‏ وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد‏.‏
    وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال
    أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في
    العدد وتكافآ في القوة والعصبية‏.‏ وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من
    حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق
    ونعيمه لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة
    النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم
    وانتزعوه منهم‏.‏ وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور
    من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا
    بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب
    الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم‏.‏ وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً
    وعيشاً خصباً دون الحي الآخر‏.‏ فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه
    إذا تكافآ في القوة والعدد‏.‏ سنة الله في خلقه‏.‏



    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك

    وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر
    يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع
    إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك
    العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك‏.‏ وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد
    على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في
    أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر‏.‏ وصاحب العصبية إذا بلغ إلى
    رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب
    والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس‏.‏ ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية
    التي يكون بها متبوعاً‏.‏ فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت‏.‏ ثم إن
    القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة فلا بد من عصبية
    تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير
    كأنها عصبية واحدة كبرى وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع‏:‏
    ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ‏"‏‏.‏ ثم إذا حصل
    التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى
    بعيدة عنها‏.‏ فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً ولكل واحدة
    منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم‏.‏
    وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها
    وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد‏.‏ وهكذا دائماً
    حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة‏:‏ فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها
    ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها
    وصار الملك أجمع لها وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة وإنما
    قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها
    تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها‏.‏ وذلك ملك آخر دون الملك المستبد وهو
    كما وقع للترك في دولة بني العباس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع
    ملوك الشيعة والعلوية والعباسية‏.‏ فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية
    وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة
    على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك‏.‏ وإن عاقها عن بلوغ الغاية


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف

    وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب
    استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم
    وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها‏.‏ فإن كانت
    الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن
    ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها
    ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنما همتهم النعيم
    والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب
    الملك في المباني والملابس والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من
    الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك‏.‏ فتذهب خشونة البداوة وتضعف
    العصبية والبسالة ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة‏.‏ وتنشأ بنوهم
    وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن
    سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص
    عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون
    بالانقراض‏.‏ وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن
    الملك فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها
    التغلب‏.‏ وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن
    المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم‏.‏ فقد تبين أن الترف من عوائق الملك‏.‏
    والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏ تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل


    والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية
    وشدتها فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا
    عن المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة
    والمطالبة‏.‏ واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى
    ملك الشام وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا‏:‏
    ‏"‏ إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها
    ‏"‏ ي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك
    يا موسى‏.‏ ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له‏:‏ ‏"‏ اذهب أنت وربك فقاتلا
    ‏"‏‏.‏ وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة
    كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد
    وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم
    يؤمنوا حق الإيمان بما خبرهم به موسى من أن الشام لهم وأن العمالقة الذين
    كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا
    تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق
    المذلة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به‏.‏ فعاقبهم الله
    بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم
    يأووا فيها لعمران ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة
    العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه‏.‏
    ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل
    الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى
    نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة
    فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب‏.‏ ويظهر لك من
    ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر‏.‏ سبحان
    الحكيم العليم‏.‏ وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون
    بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك
    كله‏.‏ ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب‏.‏
    فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في
    المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلأ إذا استهونته
    عن القتل والتلف وأن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت
    عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة قد حصل له الانقياد
    للذل والمذلة عائقة كما قدمناه‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في شأن
    الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم
    إلا دخلهم الذل ‏"‏ فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للمذلة‏.‏ هذا إلى ما
    يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر‏.‏ فإذا رأيت
    القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر‏.‏ ومن هنا
    يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان
    على عهدهم من الملوك‏.‏ وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم
    ملك ولا تمت لهم دولة‏.‏ وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن
    بن ربيعة لما أطل عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال‏:‏ أنا
    اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري معكم فمرحباً بكم وبارك الله لنا ولكم
    وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحبون ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا
    لعدوكم‏.‏ فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس

    لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان
    الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة
    العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه وأما من حيث
    هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسياسة إنما كانا له من حيث
    هو إنسان لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب
    السياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسياسة‏.‏ وقد ذكرنا أن المجد له أصل
    ينبني عليه وتتحقق به حقيقتة وهو العصبية والعشير وفرع يتم وجوده ويكفله
    وهو الخلال‏.‏ وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي
    الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً
    بين الناس‏.‏ وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة
    نقصاً في أهل البيوت والأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد
    ونهاية لكل حسب‏.‏ وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في
    العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير
    ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع وأحكام البشر إنما هي من الجهل
    والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنه فاعل للخير والشر معاً
    ومقدرهما إذ لا فاعل سواه‏.‏ فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست
    منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في
    العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصلاحية لذلك‏.‏ وهذا البرهان أوثق من
    الأول وأصح مبنى‏.‏ فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له
    العصبية‏.‏ فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من
    النواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن
    الزلات والاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف وحمل الكل وكسب المعدم
    والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم
    الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو
    ترك وحسن الظن بهم واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ورغبة الدعاء منهم
    والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحق مع
    الداعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتبذل في أحوالهم والانقياد
    للحق والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتدين بالشرائع والعبادات
    والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد
    وأمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن
    يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم
    مناسب لعصبيتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثاً منهم والملك أنسب
    المراتب والخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه
    إليهم‏.‏ وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على
    ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم
    جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم
    ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك وجعل في أيديهم من
    الخير‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً
    ‏"‏‏.‏ واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه
    ورسمناه‏.‏ والله يخلق ما يشاء ويختار‏.‏ واعلم أن من خلال الكمال التي
    يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء
    والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس
    منازلهم‏.‏ وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في
    الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمم طبيعي
    يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس
    مثلها منه‏.‏ وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى
    فيندفع الشك في شأن كرامتهم ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد وانتحال الكمال في
    الخلال والإقبال على السياسة بالكلية‏.‏ لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري
    في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطارئين من أهل الفضائل
    والخصوصيات كمال في السياسة العامة‏.‏ فالصالحون للدين والعلماء للجأ إليهم
    في إقامة مراسم الشريعة والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم
    والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من
    العدل‏.‏ فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك
    وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها‏.‏ ولهذا كان أول ما يذهب
    من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا
    الصنف من الخلق‏.‏ فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد
    أخذت في الذهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم‏:‏ ‏"‏ لَهُ
    مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ
    أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
    يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا
    فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ‏"‏‏.‏ والله
    تعالى أعلم في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر
    على التغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطوائف لقدرتهم على محاربة
    الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم
    وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام
    من صنهاجة‏.‏ وأيضا فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد
    يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء‏.‏ فلهذا لا يقتصرون
    على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يطفرون
    إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على اللأمم النائية‏.‏ وانظر ما يحكى في ذلك
    عن عمر رضى الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال‏:‏ أن
    الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين
    القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب
    أن يورثكموها فقال‏:‏ ‏"‏ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
    ‏"‏‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة وحمير
    كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى‏.‏ ولم
    يكن ذلك لغير العرب من الأمم‏.‏ وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى
    الملك طفروا من الإقليم الأول ومجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم
    الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة‏.‏ وهذا شأن هذه الأمم
    الوحشية‏.‏ فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً وأبعد من مراكزها نهاية‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار لا شريك له‏.‏
    [/b]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:55 pm

    الفصل الرابع من أهل الحضر

    وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد
    عليها وينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل مولود
    يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ‏"‏‏.‏ وبقدر ما سبق
    إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه‏:‏ فصاحب الخير
    إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر صعب عليه طريقه
    وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليها أيضاً عوائده‏.‏ وأهل الحضر لكثرة ما
    يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على
    شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم
    طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك‏.‏ حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب
    الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم
    وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد
    السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً‏.‏ وأهل البدو وإن كانوا مقبلين
    على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من
    أسباب الشهوات واللذات ودواعيها‏.‏ فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما
    يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل
    بكثير‏.‏ فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء
    الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو
    ظاهر‏.‏ وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد
    ونهاية الشر والبعد عن الخير‏.‏ فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من
    أهل الحضر‏.‏ والله يحب المتقين‏.‏ ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح
    البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكني البادية
    فقال له‏:‏ ‏"‏ ارتددت على عقبيك تعربت ‏"‏ فقال‏:‏ لا ولكن رسول الله صلى
    الله عليه وسلم إذن لي في البدو ‏"‏‏.‏ فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام
    على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على
    أمره ويحرسونه ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من
    عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من
    بادية الأعراب‏.‏ وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى
    البادية حيث لا تجب الهجرة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي
    وقاص عند مرضه بمكة‏:‏ ‏"‏ اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم
    ‏"‏ ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها فلا يرجعوا عن
    هجرتهم التي ابتدؤوا بها وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من
    الوجوه‏.‏ وقيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة‏.‏ داعية
    إلى الهجرة لقلة المسلمين وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل
    الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه
    وسلم لا هجرة بعد الفتح‏.‏ وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح‏.‏ وقيل
    سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح‏.‏ والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة
    ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الأفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل
    السكنى بالمدينة وهو هجرة‏.‏ فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على
    عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإ شارة إلى الدعاء
    المأثور الذي قدمناه وهو قوله‏:‏ ‏"‏ ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏‏.‏ وقوله
    تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون‏.‏ وأجاب سلمة بإنكار
    ما ألزمه من الأمرين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو‏.‏
    ويكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة‏.‏ ويكون الحجاج إنما نعى
    عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه كسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة
    بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وأفضل فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه
    فيه‏.‏ وعلى كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن
    مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم
    وحراسته لا لمذمة البدو‏.‏ فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل
    على مذمة التعرب‏.‏ والله سبحانه أعلم وبه التوفيق‏.‏ في أن أهل البدو
    أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم
    على مهاد الراحة والذعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في
    المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي
    تولت حراستهم واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم
    فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد فهم غارون آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت
    على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي
    مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة‏.‏ وأهل البدو لتفردهم عن
    المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار
    والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها
    بغيرهم‏.‏ فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق وبتجافون
    عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ويتوجسون
    للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم
    قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو
    استنفرهم صارخ‏.‏ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر
    عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم‏.‏ وذلك مشاهد بالعيان حتى
    في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل‏.‏ وسبب ذلك ما
    شرحناه‏.‏ وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه‏.‏
    فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة
    والجبلة‏.‏ واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً‏.‏ والله يخلق ما
    يشاء‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام

    مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه
    إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن
    الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة
    لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من
    شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الأدلال جبلة‏.‏ لا يعرفون
    سواها‏.‏ أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر
    حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس
    المضطهدة كما نبينه وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة
    بن جوية سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب وكان اتبع
    الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له‏:‏ ‏"‏ هلا
    انتظرت في اتباعه إذني ‏"‏ وكتب إلى عمر يستأذنة فكتب إليه عمر‏:‏ ‏"‏
    تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به وبقي عليك مابقي من حربك وتكسر فوقه
    وتفسد قلبه‏!‏ وأمضى له عمر سلبه‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة
    للبأس لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من
    سورة بأسه بلا شك‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد
    الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا
    ببأسه‏.‏ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه
    الأحكام‏.‏ ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في
    التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً
    ولا لمن يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه‏.‏ وهذا شأن طلبة العلم
    المنتحلين للقراءة والآخذ عن المشايخ والآ ئمة الممارسين للتعليم والتأديب
    في مجالس الوقاروالهيبة‏!‏ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس‏.‏ ولا
    تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص
    ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لآن الشارع صلوات الله عليه لما‏.‏
    أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب
    والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين
    وأدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الأيمان
    والتصديق‏.‏ فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب
    والحكم‏.‏ قال عمررضي الله عنه‏:‏ # من لم يؤدبه الشرع لاأدبه الله #
    حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح
    العباد‏.‏ ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالآحكام الوازعة ثم صار الشرع
    علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق
    الأنقياد إلى الأحكام نقضت بذلك سورة البأس فيهم‏.‏ فقد تبين أن الأحكام
    السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية فغير
    مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي‏.‏ ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية
    والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم
    بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام
    السلطان والتعليم والآداب‏.‏ ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام
    المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان
    في التعليم فوق ثلاثة أسواط نقله عن شريح القاضي واحتج له بعضهم بما وقع في
    حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات وهو ضعيف ولا يصلح شأن
    الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف‏.‏ والله الحكيم
    الخبير‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية
    اعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وهديناه النجدين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ فألهمها فجورها وتقواها
    ‏"‏‏.‏ والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه
    الأقتداء بالذين‏.‏ وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله‏.‏ ومن أخلاق
    البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض‏.‏ فمن أمتدت عينه إلى متاع أخيه
    أمتدت يده ألى أخذه ألا أن يصده وازع كما قال‏:‏ والظلم من شيم النفوس فإن
    تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه
    أحكام والمدلة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على
    بعض أو يعدوعليه فإنهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم إلا إذا
    كان من الحاكم بنفسه‏.‏ وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج
    الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه
    ذياد الحامية من أوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة‏.‏ وأما أحياء البدو
    فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الرقار
    والتجلة‏.‏ وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم
    وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم‏.‏ ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا
    كانوا عصبية وأهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كل
    أحد على نسبه وعصبيته أهم وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة
    على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد
    والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف
    عليه السلام حين قالوا لأبيه‏:‏ ‏"‏ لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون
    ‏"‏ والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له‏.‏ وأما
    المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم
    الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً
    من التخاذل‏.‏ فلا وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية
    فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة
    إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من
    الاستعصاء ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً
    تقتدي به فيما نورده عليك بعد‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه

    وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل‏.‏ ومن صلتها النعرة على
    ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة‏.‏ فإن القريب يجد
    في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله
    من المعاطب والمهالك‏:‏ نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا‏.‏ فإذا كان النسب
    المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت
    الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها‏.‏ وإذا بعد النسب بعض الشيء
    فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر
    المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هومنسوب
    إليه بوجه‏.‏ ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه
    وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها من وجوه
    النسب وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها
    ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعلموا من أنسابكم ما
    تصلون به أرحامكم ‏"‏ بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب
    صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر
    وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والا التحام‏.‏ فإذا كان
    ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما‏.‏ قلناه‏.‏ وإذا كان
    إنما يستفاذ الخبر البعيد ضغف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الثسغل به
    مجاناً ومن أعمال اللهو المنهي عنه‏.‏ ومن هذا الاعتبار معنى قولهم‏:‏
    النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من
    قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس وانتفعت النعرة التي تحمل
    عليها العصبية فلامنفعة فيه حينئذ‏.‏ والله سبحانه وتعالى‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك

    لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها
    الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل
    ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره
    ونتاجها في رماله كما تقدم والقفر مكان الشظف والسغب فصار لهم إلفاً وعادة
    وربيت فيه أجيائهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن
    يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال‏.‏ بل لو وجد واحد منهم
    السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من
    اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة‏.‏ واعتبر ذلك في مضر من
    قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف
    ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم
    والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها إختلاط ولا عرف فيهم
    شوب‏.‏ وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من
    حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان و طيء وقضاغة وإياد فاختلطت أنسابهم
    وتداخلت شعوبهم‏.‏ ففي ك‏!‏ واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس وماتعرف‏.‏
    وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم‏.‏ وهم لا يعتبرون المحافظة على
    النسب في بيوتهم وشعوبهم وإنما هذا للعرب فقط‏.‏ قال عمر رضي الله تعالى
    عنه‏:‏ ‏"‏ تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال
    من قرية كذا ‏"‏‏.‏ هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف‏.‏ من
    الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت
    الأنساب‏.‏ وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند
    قنسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لاطراح العرب
    أمر النسب وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها وصارت لهم
    علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم‏.‏ ثم وقع الاختلاط في
    الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية
    فأطرحت‏.‏ ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها وبقي ذلك في البدو
    كما كان‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع

    اعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة
    إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعى بنسب هؤلاء
    ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال‏.‏ وإذا
    وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا
    جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنه التحم بهم‏.‏ ثم إنه قد يتناسى النسب
    الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر‏.‏ وما زالت
    الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام
    والعرب والعجم‏.‏ وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء
    من ذلك‏.‏ ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه
    الإعفاء منه وقالوا هو فينا لزيق أي دخيل ولصيق وطلبوا أن يولي عليهم
    جريراً‏.‏ فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة‏:‏ ‏"‏ صدقوا يا أمير المؤمنين أنا
    رجل من الأزد أصبت دماً في قممي ولحقت بهم ‏"‏‏.‏ وانظر منه كيف اختلط
    عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم لولا علم
    بعضهم بوشائجه ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل
    وجه ومذهب‏.‏ فأفهمه واعتبر سر الله في خليقته‏.‏ ومثل هذا كثير لهذا العهد
    ولما قبله من العهود‏.‏ والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية

    اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام
    ففيهم أيضاً عصبيات آخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم
    مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العم
    الأقربين أو الأبعدين‏.‏ فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من
    العصائب في النسب العام‏.‏ والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب
    العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة‏.‏ والرياسة فيهم إنما
    تكون في نصاب واحد منهم ولا تكونه في الكل‏.‏ ولما كانت الرياسة إنما تكون
    بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها
    وتتم الرياسه لأهلها‏.‏ فإذا وجب ذلك تعين أن الرياسة عليهم لا تزال في ذلك
    النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الآخرى
    النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرياسة‏.‏ فلا تزال في ذلك
    النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما
    قلناه من سر الغلب‏.‏ لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون
    والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها وإلا
    لم يتم التكوين‏.‏ فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية‏.‏ ومنه تعين
    استمرار الرياسة في النصاب المخصوص بها كما تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية


    لا تكون في غير نسبهم وذلك أن الرياسة لا تكون إلا بالغلب والغلب إنما
    يكون بالعصبية كما قدمناه‏.‏ فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية
    غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية
    الرئيس لهم أقروا بالإذعان والاتباع‏.‏ والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون
    له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق وغاية التعصب له بالولاء والحلف
    وذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة وإذا فرضنا أنه قد التحم بهم واختلط
    وتنوسي عهده الأول من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرياسة
    قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه‏.‏ والرياسة على القوم إنما تكون متناقلة
    في منبت واحد تعتين له الغلب بالعصبية‏.‏ فالأولية التي كانت لهذا الملصق
    قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرياسة حينئذ فكيف
    تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرياسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها
    لما قلناه من التغلب بالعصبية‏.‏ وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل
    والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من
    شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب ويتورطون بالدعوى في
    شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رياستهم والطعن في
    شرفهم‏.‏ وهذا كثير في الناس لهذا العهد‏.‏ فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة
    أنهم من العرب‏.‏ ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين‏.‏ من بني
    عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر
    نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم ويسمونه
    الحجازي‏.‏ ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد
    العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية
    أبي عبد القوي‏.‏ ولم يعلم دخول أحد من العباسيين إلى المغرب لأنه كان منذ
    أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فكيف يكون
    من سبط العباس أحد من شيعة العلويين وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان
    من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في
    نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو
    القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن
    إدريس‏.‏ ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه
    مستجيراً بهم فكيف تتم له الرياسة عليهم في باديتهم وإنما هو غلط من قبل
    اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب
    وهم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم ولم يكن
    بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب‏.‏ وإنما يحمل على هذا
    المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد‏.‏ ولقد
    بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره وقال
    بلغته الزناتية ما معناه‏:‏ أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا
    النسب وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله‏.‏ وأعرض عن التقرب إليه
    بذلك‏.‏ ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد
    أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من
    سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنى أمراء
    طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثيرة ورياستهم
    في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح
    ذلك النسب وأقوى عصبياته‏.‏ فاعتبره واجتنب المغالط فيه‏.‏ ولا تجعل من
    هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت
    الرياسة في هرثمة قومه وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين ودخول
    قبائل المصامدة في دعوته


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة

    والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أن الشرف والحسب
    إنما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين تكون
    له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من
    تجلة سلفه وشرفهم بخلالهم‏.‏ والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلى الله
    عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الناس معادن‏:‏ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام
    إذا فقهوا ‏"‏‏.‏ فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب وقد بينا أن ثمرة الأنساب
    وفائدتها أنما هي العصبية للنعرة والتناصر فحيث تكون العصبيه مرهوبه ومخشيه
    والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى‏.‏ وتعديد
    الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل
    العصبية لوجود ثمرة النسب‏.‏ وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية
    لأنه سرها‏.‏ ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز وإن
    توهموه فزخرف من الدعاوى‏.‏ وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه
    أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافية
    ما استطاع وهذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب وتعديد الآباء ولكنه
    يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على
    طريقة واحدة من الخيم ومسالكه وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت
    أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه
    أولى‏.‏ وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها
    بالحضارة كما تقدم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون
    به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب
    العصبية جملة‏.‏ وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم
    لأول عهدهم موسوسون بذلك‏.‏ وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل‏.‏
    فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت‏:‏ أولاً لما تعدد في سلفهم
    من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب مفتهم
    وشريعتهم ثم بالعصبة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به‏.‏
    ثم انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذلة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في
    الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين‏.‏ وما زال هذا الوسواس
    مصاحباً لهم فتجدهم يقولون‏:‏ هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب
    هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة‏.‏
    وكثيراً من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى
    هذا الهذيان‏.‏ وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكرالحسب في كتاب
    الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول‏.‏ والحسب هو أن يكون من قوم قديم
    نزلهم بالمدينة ولم يتعرض لهم‏.‏ وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم
    بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه‏.‏
    فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط‏.‏ مع أن الخطابة إنما هي استمالة
    من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد‏.‏ وأما من لا قدرة له البتة فلا
    يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو‏.‏ وأهل الأمصار من
    الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربي في جيل وبلد لم يمارسوا العصبية ولا
    أنسوا أحوالها فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد
    الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة‏.‏ والله
    بكل شيء عليم‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:52 pm

    فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة
    قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحت لهم
    مقامات الولاية وأحوال الصديقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل
    الذوق مع أنهم غير مكلفين‏.‏ ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم
    لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب‏.‏ وربما ينكر
    الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية
    لا تحصل إلا بالعبادة وهوغلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول
    الولاية على العبادة ولا غيرها‏.‏ وإذا كانت النفس الأنسانية ثابتة الوجود
    فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه‏.‏ وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم
    الناطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنما فقد لهم العقل الذي ينال به التكليف
    وهي صفة خاصة للنفس وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال
    معاشه واستقامة منزله‏.‏ وكإنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق
    له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده‏.‏ وليس من فقد هذه الصفة بفاقد
    لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي
    هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة
    على شيء من التكاليف‏.‏ وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء
    بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم‏.‏ ولك في تمييزهم
    علامات‏:‏ منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما لا يخلون عنها أصلاً من
    ذكر وعبادة لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف والمجانين
    لا تجد لهم وجهة أصلاً‏.‏ ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم
    والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض
    لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة‏.‏ ومنها كثرة تصرفهم في الناس
    بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم والمجانين لا
    تصرف لهم‏.‏ وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصواب‏.‏


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up
    فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس
    وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس‏:‏ فمنهم
    المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في
    العناصر وما يحصل من الإمتزاج بين طباعها بالتناظر ويتأدى من ذلك المزاج
    إلى الهواء‏.‏ وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية
    وتخمينات مبنية على التأثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس
    يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس‏.‏ ونحن
    نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله‏.‏ وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس
    مما ذكرناه في شيء‏.‏ ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب
    وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها
    عملهم‏.‏ ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب
    تختلف باختلاف مراتبها في الزوجيه والفردية واستوائها فيهما فكانت ستة عشر
    شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان وإن كان الفرد
    فيهما في مرتبتين واحده فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستة
    أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال‏.‏ جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها
    كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستة عشر
    بيتاً طبيعية بزعمهم وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة
    وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم
    العناصر يختص به واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه‏.‏
    إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس وهذه إنما
    مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية ولا دليل يقوم على شيء منها‏.‏
    ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربما نسبوها إلى دانيال
    أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها‏.‏ وربما يدعون مشروعيتها
    ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك
    ‏"‏‏.‏ وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا
    تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك بخط ولا
    استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك
    أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن
    يأتيه الوحي عند الخط‏.‏ وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة
    وحي فلا‏.‏ وهذا معنى الحديث والله أعلم‏.‏ فإذا أرادوا استخراج مغيب
    بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد
    المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً‏.‏ ثم يطرحون
    النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على
    الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ئم يولدون منها أربعة
    أشكال آخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي
    بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم
    يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجع في كل مرتبة من مراتب
    الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة
    شكلين كذلك تحتها ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس
    عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر‏.‏ ثم يحكمون على الخط كله
    بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات والنظر والحلول والامتزاج
    والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً‏.‏ وكثرت هذه
    الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين
    والمتآخرين وهي كما رأيت تحكم وهوى‏.‏ والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب
    فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من
    البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحس إلى عالم الروح‏.‏ ولذلك يسمي
    المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم
    في أصل مواليدهم على إدراك الغيب‏.‏ فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه
    من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام
    أو غيرها أشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما فهو من باب
    الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه‏.‏ وإن
    لم يكن كذلك وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وإنها تفيده ذلك فهذر من
    القول والعمل‏.‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ والعلامة لهذه الفطرة التي فطر
    عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم
    خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمطط ومبادىء الغيبة عن الحس ويختلف
    ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم‏.‏ فمن لم توجد له هذه العلامة
    فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه‏.‏ فصل ومنهم طوائف
    يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس
    الروحانية ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس ولا من
    الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد
    لأهل العقول المستضعفة‏.‏ ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به
    الخواص‏.‏ فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في
    آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين
    من الملوك‏.‏ وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح
    عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً وعشرات ومئين وألوفاً‏.‏
    فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك‏.‏ ثم اطرح من كل
    واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقية هذا وبقية هذا‏.‏ ثم انظر بين العددين
    الباقيين من حساب الاسمين‏:‏ فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معاً
    زوجين أو فردين معاً فصاحب الأقل منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجاً
    والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكمية وهما
    معاً زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب‏.‏
    ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما‏:‏ أرى الزوج
    والأفراد يسمو أقلها وأكثرها عند التخالف غالب ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي
    وعند استواء الفرد يغلب طالب ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها
    بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة
    على الواحد في المراتب الأربع وهي‏:‏ ‏"‏ أ ‏"‏ الدالة على الواحد و ‏"‏ ي
    ‏"‏ الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبه العشرات و ‏"‏ ق ‏"‏ الدالة على
    المائة لأنها واحد في مرتبة المئين ‏"‏ وش ‏"‏ الدالة على الألف لأنها واحد
    في مرتبة الآلاف‏.‏ وليس بعد الألف عدد يدل ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة
    على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي ‏"‏ ايقش ‏"‏‏.‏ ثم فعلوا ذلك
    بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الألاف منها
    لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة
    حروف‏:‏ وهي ‏"‏ ب ‏"‏ الدالة على اثنين في الأحاد و ‏"‏ ك ‏"‏ الدالة على
    اثنين في العشرات وهي عشرون و ‏"‏ ر ‏"‏ الدالة على اثنين في المئين وهي
    مائتان وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي بكر‏.‏ ثم فعلوا ذلك
    بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس‏.‏ وكذلك إلى آخر حروف
    أبجد‏.‏ وصارت تسع كلمات نهاية عدد الأحاد وهي ‏"‏ إيقش بكر جلس دمت هنث
    وصخ زغد حفظ طضغ ‏"‏‏.‏ مرتبة على توالي الأعداد ولكل كلمة منها عددها الذي
    هي في مرتبته فالواحد لكلمة أيقش والاثنان لكلمة بكر والثلاثة لكلمة جلس
    وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة‏.‏ فإذا أرادوا طرح الاسم
    بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه
    ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم فإن كانت زائدة على
    التسعة أخذوا ما فضل عنها وإلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر
    وينظرون بين الخارجين بما قدمناه‏.‏ والسر في هذا القانون بين‏.‏ وذلك أن
    الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد
    العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين
    الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان وكذلك الثلاثة والثلاثون
    والثلثمائة والثلاثة الألاف كلها ثلاثة ثلاثة‏.‏ فوضعت الأعداد على التوالي
    دالة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل
    كلمة من الأحاد والعشرات والمئين والألوف وصارعدد الكلمة الموضوع عليها
    نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الأحاد أو العشرات أو المئين فيؤخد عدد
    كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه‏.‏ هذا
    هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم‏.‏ وكان بعض من لقيناه من
    شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها
    ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه با لأخرى سواء وهي هذه أرب يسقك
    جزلط مدوص هف تحذن عش خغ تضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكل كلمة منها
    عدها الذي في مرتبته فيها الثلاثي والرباعي والثنائي‏.‏ وليست جارية على
    أصل مطرد كما تراه‏.‏ لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه
    المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء
    ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات
    أيقش‏.‏ والله أعلم كيف ذلك‏.‏ وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان
    ولا تحقيق‏.‏ والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند
    المحققين لما فيه من الأراء البعيدة عن التحقيق والبرهان يشهد لك بذلك
    تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ‏.‏ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب
    فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم ‏"‏ المعزوة إلى أبي العباس
    سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة
    بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين‏.‏ وهي غريبة العمل
    صناعة‏.‏ وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز
    فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه‏.‏ وصورتها التي يقع العمل عندهم
    فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات
    والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم‏.‏ وكل دائرة مقسومة
    بأفسام فلكها‏:‏ إما البروج وإما العناصر أو غيرهما‏.‏ وخطوط كل قسم مارة
    إلى المركز ويسمونها الأوتار‏.‏ وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها
    برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا
    العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة‏.‏ وبين الدوائر
    أسماء العلوم ومواضع الأكوان‏.‏ وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت
    المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض ومائة وواحد
    وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف
    وجوانب التي عينت البيوت العامرة من الخالية‏.‏ وحافات الزايرجة أبيات من
    عروض الطويل على على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج
    المطلوب من تلك الزايرجة‏.‏ الا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح
    والجلاء‏.‏ وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل
    الحدثان بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء اشبيلية كان في الدولة
    اللمتونية ونص البيت‏:‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد
    مثلا وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه
    الزايرجة وغيرها‏.‏ فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل
    كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك
    ودرجها وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من
    أوله ماراً إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع‏.‏ فيأخذون جميع
    الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى أخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيرونها
    حروفاً بحساب الجمل‏.‏ وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين
    وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم‏.‏ ويضعونها مع حروف السؤال
    ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من
    الحروف والأعداد من أوله إلى ا لمركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط‏.‏
    ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى‏.‏ ثم
    يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب
    المتقدم ويضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج‏.‏ وأسه
    عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب
    فإنه عندهم البعد عن أول المراتب‏.‏ ثم يضربونه في عدد آخر يسمون الأس
    الأكبر والدور الأصلي‏.‏ ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على
    قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة‏.‏ ويستخرجون منها حروفاً
    ويسقطون أخرى‏.‏ ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون
    إلى حروف السؤال وما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها
    الأدوار ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنه الدور يعاودون ذلك بعدد
    الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي
    فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه
    وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية
    العمل بهذه الزايرجة‏.‏ وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج
    الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في
    توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع‏.‏ وليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن
    الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب
    والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو
    موافقاً للسؤال‏.‏ ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من
    السؤال والأوتار‏.‏ والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد
    المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح آخرى ومعاودة ذلك في الأدوار
    المعدودة ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر‏.‏ وقد يقع
    الأطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة
    المجهول‏.‏ فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم
    الحاصل للنفس وطريق لحصوله ولا سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة
    القياس وزيادة في الفكر‏.‏ وقد مر تعليل ذلك غير مرة‏.‏ ومن أجل هذا المعنى
    ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي‏.‏ ولقد
    وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله‏.‏ ولعمري أنها من الأعمال الغريبة
    والمعاناة العجيبة والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي
    إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت‏.‏ ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه‏.‏
    ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة
    بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه‏.‏
    وكثيرمن الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب
    فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات وأن صاحب العمل بها يثبت
    حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار ويفعل تلك
    الصناعات على غير نسبة ولا قانون ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على
    طريقة منضبطة‏.‏ وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب
    بين الموجودات والمعدومات والتفاوت بين المدارك والعقول‏.‏ ولكن من شأن كل
    مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه‏.‏ ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه
    الصناعة والحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند
    من يباشر ذلك ممن له ذلك وحدس‏.‏ وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي
    هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها فما ظنك
    بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها‏.‏ فلنذكر مسألة من المعاياة يتضح لك
    بها شيء مما ذكرنا‏.‏ مثاله‏:‏ لو قيل لك خذ عدداً من الدراهم واجعل بإزاء
    كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً ثم
    اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم
    والفلوس فجوابه أن تقول هي تسعة‏.‏ لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون
    وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من
    الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان
    الواحد وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً
    وعلى سعره اشتريت بالدراهم فتكون تسعة‏.‏ فأنت ترى كيف خرج لك الجواب
    المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة‏.‏ والوهم أول ما يلقي إليك هذه
    وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفتة‏.‏ وظهر أن
    التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها‏.‏ وهذا إنما هو في
    الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم‏.‏ وأما الكائنات المستقبلة إذ ا لم
    تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته‏.‏
    وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج
    الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك
    الحروف بعينها على ترتيب آخر‏.‏ وسر ذلك إنما هو من تناسب نينهما يطلع عليه
    بعض دون بعض‏.‏ فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك
    القوانين‏.‏ والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على
    وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات‏.‏ وليس هذا من المقام الأول بل إنما
    يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج‏.‏ ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه
    الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثره الله بعلمه ‏"‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏"‏‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up
    الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال
    وفيه فصول وتمهيدات

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up
    الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
    اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن
    اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل
    الحاجي والكمالي‏.‏ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومنهم من
    ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج
    فضلاتها‏.‏ وهؤلاء القائمون‏.‏ على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولا بد
    إلى البدو لأنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان
    وغير ذلك‏.‏ فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم وكان حينئذ
    اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة
    إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحضل بلغة العيش من غير مزيد عليه ثم
    إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى
    والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة
    واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن
    والأمصار للتحضر‏.‏ ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة فتجيء عوائد الترف
    البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس
    الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح
    وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى
    الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في
    صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من
    ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون‏.‏ وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل
    الأمصار والبلدان‏.‏ ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل
    التجارة‏.‏ وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على
    الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم‏.‏ فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية
    لا بد منهما كما قلناه‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up
    الفصل الثاني
    قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من
    الفلح والقيام على الأنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس
    والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي
    يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة
    إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران والكهوف‏.‏
    وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته
    النار‏.‏ فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى
    من الظعن وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال وهم عامة البربر والأعاجم‏.‏
    ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم‏.‏ والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد
    المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه
    القائمون على الشاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة
    وهولاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة‏.‏ وأما من كان
    معاشهم في الأبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول
    ونباتها وشجرها لا يستغني بها الأبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر
    وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى
    دفاءة هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله إذ الأبل أصعب الحيوان فصالاً
    ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة‏.‏ وربما
    ذادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم
    فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير
    المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون
    البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق‏.‏ إلا أن العرب
    أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون
    عليها وعلى الشياه والبقر معها‏.‏ فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد
    منه في العمران‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up
    الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه
    وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما قد ذكرنا أن البدو هم
    المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون
    بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم‏.‏ ولا شك أن الضروري أقدم من
    الحاجي والكمالي وسابق عليهما لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه‏.‏
    فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا
    ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذ ا كان الضروري حاصلاً‏.‏ فخشونة البداوة
    قبل رقة الحضارة‏.‏ ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه
    إلى مقترحه منها‏.‏ ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف
    وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة‏.‏ وهكذا شأن القبائل
    المتبدية كلهم‏.‏ والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه
    إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته‏.‏ ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر
    ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل
    البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا
    إلى الدعة والترف الذي في الحضر‏.‏ وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن
    أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه‏.‏ ثم أن كل واحد من البدو والحضر
    متفاوت الأحوال من جنسه‏:‏ فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر
    أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من مدينة‏.‏ فقد تبين أن وجود البدو متقدم
    على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد
    الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:49 pm


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً
    إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء
    فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه‏.‏ وقد وقع في
    كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون
    عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه ويسمونها الحالومية‏.‏ وذكر منها مسلمة في
    كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام وهو أن يقال عند النوم بعد
    فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي تماغس بعد أن يسواد وغداس
    نوفنا غادس ويذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم‏.‏ وحكي أن
    رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثل له شخص يقول له أنا
    طباعك التام فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه‏.‏ وقد وقع لي أنا بهذه
    الأسماء مراء عجيبة واطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي‏.‏ وليس
    ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً
    في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له
    وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلاً على إيقاع المستعد
    له‏.‏ فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك وتدبره فيما
    تجد من أمثاله‏.‏ والله الحكيم الخبير‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها
    بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة
    ولا يستدلون عليه بأثرمن النجوم ولا غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى
    فطرتهم التي فطروا عليها وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة
    كالمرايا وطساس الماء والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل
    الزجر في الطير والسباع وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى وهذه
    كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها‏.‏ وكذلك
    المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها‏.‏ وكذلك النائم
    والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب‏.‏ وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة
    لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة‏.‏ ونحن الآن نتكلم على هذه
    الإدراكات كلها ونبتدىء منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى
    آخرها‏.‏ ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك
    الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها‏.‏ وذلك أنها ذات روحانية موجودة
    بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل وإنما تخرج من القوة إلى
    الفعل بالبدن وأحواله‏.‏ وهذا أمر مدرك لكل أحد‏.‏ وكل ما بالقوة فله مادة
    وصورة‏.‏ وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل‏.‏
    فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية‏.‏ ثم
    يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بوررود مدركاتها
    المحسوسة عليها وما تنترع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور
    مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل فتتم ذاتها وتبقى النفس
    كالهيولى والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة‏.‏ ولذلك نجد
    الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا
    بكشف بغيرهما‏.‏ وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم
    يتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات‏.‏ ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها
    ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك‏:‏ إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها
    المدارك البدنية وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في
    البدن والحواس وبشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت
    عليه أولاً من الإدراك الجسماني‏.‏ وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن
    فيرتفع حجاب البدن لحظة‏:‏ إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل
    النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق أو بالرياضة مثل
    أهل الكشف من الصوفية‏.‏ فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ
    الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الإتصال في الوجود كما قررناه قبل‏.‏ وتلك
    الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها
    كما مر‏.‏ فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً‏.‏ وربما دفعت
    تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس
    بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به‏.‏ هذا هو شرح استعداد النفس
    لهذا الإدراك الغيبي‏.‏ ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه‏:‏ فأما
    الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان
    وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم
    أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير
    معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها فى نوع واحد منها
    وأشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه
    وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك‏.‏ بل لا
    يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين
    سطح المرآة حجاب كأنه غمائم يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم
    بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما
    أدركوه‏.‏ وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال
    وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك وهو نفساني ليس من إدراك
    البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف‏.‏ ومثل ذلك ما يعرض
    للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللناظرين في الماء والطساس وأمثال
    ذلك‏.‏ وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم
    للاستعداد ثم يخبر كما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي
    لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة‏.‏ وغيبة هؤلاء عن الحس
    أخف من الأولين‏.‏ والعالم أبو الغرائب‏.‏ وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض
    الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي
    قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أومسموع‏.‏ وتكون
    قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رأه أو سمعه
    فيؤديه ذلك إلى إدراك ما كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود
    الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلتة فيكون
    عنها الرؤيا‏.‏ وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد
    أمزجتهم غالباً وضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غيرمستغرقة في الحواس
    ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما زاحمها على
    التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه
    التخبط‏.‏ فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو
    لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم
    نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال‏.‏ وربما نطق على لسانه في تلك
    الحال من غير إرادة النطق‏.‏ وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه
    لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية
    كما قررناه‏.‏ ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأما العرافون فهم
    المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي
    يتوجهون إليه ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ
    ذلك الاتصال والإدراك ويدعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة‏.‏ هذا
    تحصيل هذه الأمور‏.‏ وقد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف
    تحقيقاً ولا إصابة‏.‏ ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في
    المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله‏.‏ وهذه الإدراكات التي ذكرناها
    موجودة كلها في نوع البشر‏.‏ فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف
    الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك
    غيبهم‏.‏ وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك‏.‏ واشتهر منهم في الجاهلية شق بن
    أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسان وكان يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه
    إلا الجمجمة‏.‏ ومن مشهور الحكايات عنهما تأوبل رؤيا ربيعة بن مضر وما
    أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في
    قريش ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسسرى عبد المسيح
    فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس‏.‏ وهذه كلها مشهورة‏.‏ وكذلك العرافون
    كان فى العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال‏:‏ فقلت لعراف اليمامة
    داوني فإنك إن داويتني لطبيب وقال الآخر‏:‏ جعلت لعراف اليمامة حكمه وعراف
    نجد إن هما شفياني وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة وعراف نجد الأبلق
    الأسدي‏.‏ ومن هذه المدارك الغبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة
    والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك
    الأمر كما يريد‏.‏ ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب
    الاختيار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق وغايته أن يسمعه
    ويفهمه‏.‏ وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام
    بمثل ذلك‏.‏ ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم
    أشخاصا ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما
    يستبشع‏.‏ وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في
    دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين والجوز حتى يذهب
    لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه فيخرج من ذلك الدهن فحين يجف عليه
    الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة‏.‏ وهذا
    فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني‏.‏ ومن
    الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً
    صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ثم
    تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها‏.‏ ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة
    الجوع‏.‏ ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه
    واطلعت النفس على ذاتها وعالمها‏.‏ فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل
    الموت ما يقع لهم بعده وتطلع النفس على المغيبات‏.‏ ومن هؤلاء أهل الرياضة
    السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في
    العوالم‏.‏ وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد
    الهند‏.‏ ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة
    والأخبار عنهم في ذلك غريبة‏.‏ وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه
    المقاصد المذمومة وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل
    لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع
    التغذية بالذكر فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة‏.‏ لأنه إذا نشأت النفس على
    الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية‏.‏
    وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا
    يكون مقصودا من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله
    وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة
    شرك‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ‏"‏ من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ‏"‏‏.‏
    فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه‏.‏ وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل
    فبالغرض وغير مقصود لهم‏.‏ وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به
    وإنما يريد الله لذاته لا لغيره‏.‏ وحصول ذلك لهم معروف‏.‏ ويسمون ما يقع
    لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً وما يقع لهم من التصرف
    كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم‏.‏ وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو
    إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس
    المعجزة بغيرها‏.‏ والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو
    كاف‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن
    فيكم محدثين وإن منهم عمر ‏"‏‏.‏ وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد
    بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ يا سارية‏!‏ الجبل ‏"‏‏.‏ وهو
    سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات
    وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام وكان بقربه جبل يتجهز إليه فرفع
    لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه‏:‏ ‏"‏ يا سارية‏!‏ الجبل
    ‏"‏ وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصة معروفة‏.‏ ووقع مثله
    أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من
    أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة‏.‏ فقال في سياق
    كلامه‏:‏ ‏"‏ وإنما هما أخواك وأختاك فقالت‏:‏ ‏"‏ إنما هي أسماء فمن
    الأخرى فقال‏:‏ إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية ‏"‏ فكانت جارية‏.‏ وقع في
    الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل‏.‏ ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن
    بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء‏.‏ إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في
    زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد
    إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها‏.‏ والله
    يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdl
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:37 pm

    طلعت شرموخ كتب: تمهيـــد

    يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون
    الحضرمي وفقه الله تعالى‏:‏ الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك
    والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى
    أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شي في السماوات والأرض ولا يفوت‏.‏
    أنشأنا من الأرض نسماً واستعمرنا فيها أجيالاً وأمماً ويسر لنا منها
    أرزاقاً وقسماً‏.‏ تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا
    الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء
    والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد
    النبي الأمي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمخض لفصاله
    الكون قبل ان تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وشهد بصدقه
    الحمائم والعنكبوت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في محبته واتباعه الأثر
    البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله
    عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم
    كثيراً‏.‏ أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال
    وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه
    الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد
    على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال
    وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاختفال وتؤدي إلينا شأن
    الخليقة كيف تقلبت بها ألاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا
    الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل
    للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل
    في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق‏.‏ وإن فحول المؤرخين في
    الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر
    وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف
    من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم
    واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال
    ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف
    التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في
    الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام
    وخيم وبيل‏.‏ والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه
    والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها
    صفحات الصواب ويصقل‏.‏ هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا
    تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا‏.‏ والذين ذهبوا بفضل الشهرة
    والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون
    لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري
    وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من
    المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من
    المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن
    الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم
    والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون‏.‏ أو اعتبارهم فللعمران
    طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار‏.‏ ثم
    إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام
    في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك‏.‏ ومن
    هؤلاء من استوعب ما قبل الملة هن الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن
    نحا منحاه‏.‏ وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم
    والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره
    واقتصر على أحاديث دولته ومصره‏.‏ كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة
    الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان‏.‏ شم لم
    يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك
    المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت
    به من عوائد الأمم والأجيال‏.‏ فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع
    في العصور الأول صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انتضيت من أغمادها
    ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع
    لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة
    بأعيانها اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة
    في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها‏.‏ ثم إذا
    تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً
    لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها
    ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال
    مبادىء الدول ومراتبها مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثاً عن
    المقنع في تباينها أوتناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب‏.‏ ثم جاء
    آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار
    مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما
    فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل‏.‏ وليس يعتبر
    لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا
    بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد‏.‏ ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور
    الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي
    وأنا المفلس أحسن السوم‏.‏ فأنشأت في التاريخ كتاباً رفعت به عن أحوال
    الناشئة من الأجيال حجاباً وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً وأبديت
    فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين
    عمروا المغرب في هذه الأعصار وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان
    لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف من الملوك والأنصار وهم العرب
    البربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب
    مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين
    سواهما‏.‏ فهذبت مناحيه تهذيباً وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً
    وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعته من بين المناحي مذهباً
    عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً‏.‏ وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما
    يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن
    وأسبابها ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك
    وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك‏.‏ ورتبتة على مقدمة
    وثلاثة كتب‏:‏ المقدمة‏:‏ في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع
    بمغالط المؤرخين‏.‏ الكتاب الأول‏:‏ في العمران وذكر ما يعرض فيه من
    العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما
    لذلك من العلل والأسباب‏.‏ الكتاب الثاني‏:‏ في أخبار العرب وأجيالهم
    ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من
    الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط
    واليونان والروم والترك والإفرنجة‏.‏ الكتاب الثالث‏:‏ في أخبار البربر ومن
    إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من
    الملك والدول‏.‏ ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره وقضاء الفرض
    والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فأفدت ما نقص
    من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت
    بها ما كتبته فى تلك الأسطار وأدرجتها في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من
    أمم النواحي وملوك الأمصار والضواحي سالكاً سبيل الاختصار والتلخيص مفتدياً
    بالمرام السهل من العويص داخلاً من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار
    على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعاباً وذلك من الحكم النافرة صعاباً
    وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً ؤأصبح للحكمة صواناً وللتاريخ جراباً‏.‏
    ولما كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر من أهل المدن والوبر والإلماع
    بمن عاصرهم من الدول الكبر وأفصح بالذكرى والعبر في مبتدإ الأحوال وما
    بعدها من الخبر سميته‏:‏ كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب
    والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر‏.‏ ولم أترك شيئاً في
    أولية الأجيال والدول وتعاصر الأمم الأول وأسباب التصرف والحول في القرون
    الخالية والملل وما يعرض في العمران من دولة وملة ومدينة وحلة وعزة وذلة
    وكثرة وقلة وعلم وصناعة وكسب وإضاعة وأحوال متقلبة مشاعة وبدو وحضر وواقع
    ومنتظر إلا واستوعبت جمله وأوضحت براهينه وعلله‏.‏ فجاء هذا الكتاب فذا بما
    ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة‏.‏ وأنا من بعدها موقن
    بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء راغب من
    أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء النظر بعين الانتقاد لا بعين
    الارتضاء والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء‏.‏ فالبضاعة بين أهل
    العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة والحسنى من الإخوان مرتجاة والله
    أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل‏.‏ وبعد أن
    استوفيت علاجه وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه وأوضحت بين العلوم
    طريقه ومنهاجه وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه أتحفت بهذه النسخة
    منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح الماهد المتحلي منذ خلع
    التمائم ولوث العمائم بحلى القانت الزاهد المتوشح من زكاء المناقب والمحامد
    وكرم الشمائل والشواهد بأجمل من القلائد في نحور الولائد المتناول بالعزم
    القوي الساعد والجد المؤاتي المساعد والمجد الطارف والتالد ذوائب ملكهم
    الراسي القواعد الكريم المعالي والمصاعد جامع أشتات العلوم والفوائد وناظم
    شمل المعارف الشوارد ومظهر الآيات الربانية في فضل المدارك الإنسانية بفكره
    الثاقب الناقد ورأيه الصحيح المعاقد النير المذاهب والعقائد نور الله
    الواضح المراشد ونعمته العذبة الموارد ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد
    ورحمته الكريمة المقالد التي وسعت صلاح الزمان الفاسد واستقامة المائد من
    الأحوال والعوائد وذهبت بالخطوب الأوابد وخلعت على الزمان رونق الشباب
    العائد وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند أمير المؤمنين
    أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان الكبير المجاهد المقدس أمير
    المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام من بني مرين الذين جددوا الدين
    ونهجوا السبيل للمهتدين ومحوا آثار البغاة المفسدين‏.‏ أفاء الله على الأمة
    ظلاله وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله‏.‏ وبعثته إلى خزانتهم الموقفة
    لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم حيث
    مقر الهدى ورياض المعارف خضلة الندى وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى
    والإمامة الكريمة الفارسية العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف وفضلها الغني
    عن التعريف تبسط له من العناية مهاداً وتفسح له في جانب القبول آماداً
    فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهاداً‏.‏ ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب وعلى
    حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب ومن مدد بصائرها منيرة نتائج القرائح
    والالباب‏.‏ والله يوزعنا شكر نعمتها ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها
    ويعيننا على حقوق خدمتها ويجعلنا من السابقين في ميدانها المجلين في حومتها
    ويضفي على أهل إيالتها وما أوى من الإسلام إلى حرم عمالتها لبوس حمايتها
    وحرمتها وهو سبحانه المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها بريئة من
    شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:31 pm

    طلعت شرموخ كتب:[b][color=Black][b][size=25][color=Navy][font=Arial Black] فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر

    وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد
    ‏"‏ فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين‏.‏
    وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده
    وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنين
    مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة
    سنة وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت
    وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة‏.‏ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل
    مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من
    السماء فهلكوا كلهم‏.‏ ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من
    المفسرين وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له
    فوقع عليها وحمل منها ما قدرعليه وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه
    فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي‏:‏ ‏"‏ إرم ذات العماد
    ‏"‏ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمرأشقر قصير على حاجبه خال وعلى
    عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال‏:‏ هذا والله
    ذلك الرجل‏.‏ وهذه المدينة لم يسمع لها خبرمن يومئذ في شيء من بقاع
    الأرض‏.‏ وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال
    عمرانها متعاقباً والأدلاء تقص طرقها من كل وجه ولم ينقل عن هذه المدينة
    خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم‏.‏ ولو قالوا إنها درست فيما
    درس من الآثار لكان أشبه‏.‏ إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة‏.‏ وبعضهم
    يقول إنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها‏.‏ وقد ينتهي الهذيان ببعضهم
    إلى إنها غائبة وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر‏.‏ مزاعم كلها أشبه
    بالخرافات‏.‏ والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة
    ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء‏.‏
    ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين‏.‏ ثم
    وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة والتي هي أقرب إلى
    الكذب المنقولة في عداد المضحكات‏.‏ وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل
    الخيام‏.‏ وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين
    على العموم بما اشتهر من قوتهم ة لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو
    غيرها‏.‏ وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى
    القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار‏.‏ وأي ضرورة إلى هذا
    المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه مثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه
    كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة‏.‏ ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما
    ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن
    يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما
    في عقد النكاح دون الخلوة حرصاً على اجتماعهما في مجلسه وأن العباسة تحيلت
    عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة سكر
    فحملت ووشي بذلك للرشيد فاستغضب‏.‏ وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها
    وأبويها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة
    رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده‏.‏ والعباسة بنت محمد المهدي بن
    عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله
    ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابنة خليفة أخت
    خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته وإمامة
    الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية
    وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش‏.‏ فأين يطلب الصون
    والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والزكاء إذا فقد من بيتها أو كيف
    تلحم نسبها بجعفر بن يحيى تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم بملكة
    جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول وأشراف قريش‏.‏ وغايته أن جذبت
    دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف‏.‏ وكيف يسوغ
    من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم أبائه ولو نظر
    المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه
    لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج
    في تكذيبه‏.‏ وأين قدر العباسة والرشيد من الناس وإنما نكب البرامكة ما
    كان من استبدادهم على الدولة واحتجافهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب
    اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن
    له معهم تصرف في أمور ملكه‏.‏ فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة
    وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عن سواهم من وزارة وكتابة
    وقيادة وحجابة وسيف وقلم‏.‏ ويقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد
    خمسة وعشرون رئيساً من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة
    بالمناكب ودفعوهم عنها بالراح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد
    وخليفة حتى شب في حجره ودرج من غشه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت‏.‏
    فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم وانبسط الجاه عندهم
    وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطت إليهم من
    أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وسيرت إلى خزائنهم في سبيل التزلف
    والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء
    وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني ومدحوا بما لم
    يمدح به خليفتهم وأسنو لعفافهم الجوائز والصلات واستولوا على القرى
    والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك حتى آسفوا البطانة وأحقدوا
    الخاصة وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبت إلى مهادهم
    الوثير من الدولة عقارب السعاية حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم
    الساعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم ولا
    وزعتهم أواصر القرابة‏.‏ وقارن ذلك عند مخدومهم نواشي الغيرة والاستنكاف من
    الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة وانتهى بها
    الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبدالله بن الحسن
    بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج
    على المنصور‏.‏ ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم‏.‏
    على أمان الرشيد بخطه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري ودفعه
    الرشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره‏.‏ فحبسه مدة ثم حملته
    الدالة على تخلية سبيله والاستبداد بحل عقاله حرماً لدماء أهل البيت بزعمه
    ودالة على السلطان في حكمه‏.‏ وسأله الرشيد عنه لما وشي به إليه ففطن
    وقال‏:‏ أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان وأسرها في نفسه‏.‏ فأوجد السبيل
    بذلك على نفسه وقومه حتى ثل عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم
    وبدارهم وذهبت سلفاً ومثلاً للآخرين أيامهم‏.‏ ومن تأمل أخبارهم واستقصى
    سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الآثر ممهد الأسباب‏.‏ وانظرما نقله ابن
    عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكر في باب
    الشعراء من كتاب العقد في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم
    تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه
    وكذلك ماتحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً
    على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله‏:‏ ليت هنداً أنجزتنا ماتعد
    وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد وأن
    الرشيد لما سمعها قال‏:‏ ‏"‏ إي والله إني عاجز ‏"‏ حتى بعثوا بأمثال هذه
    كامن غيرته وسلطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء
    الحال‏.‏ وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر واقتران سكره
    بسكر الندمان فحاش لله ما علمنا عليه من سوء‏.‏ وأين هذا من حال الرشيد
    وهيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحابة
    العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ومكاتبته
    سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من
    العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها‏.‏ حكى الطبري
    وغيره أنه كان يصلي في كل يو مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج
    عاماً‏.‏ ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في
    الصلاة لما سمعه يقرأ ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني
    ‏"‏ وقال والله ما أدري لم فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضباً
    وقال يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً‏!‏ إياك إياك والقرآن والدين ولك ما
    شئت بعدهما‏.‏ وأيضاً فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه
    المنتحلين لذلك ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن إنما خلفه
    غلاماً‏.‏ وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها‏.‏
    وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ‏:‏ ‏"‏ يا أبا عبد الله إنه
    لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس
    كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة
    ‏"‏‏.‏ قال مالك‏:‏ ‏"‏ فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ ‏"‏‏.‏ ولقد
    أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت
    المال‏.‏ ودخل عليه يوماً وهو بمجلسه يباشر الخياطين في أرقاع الخلقان من
    ثياب عياله فاستنكف المهدي من ذلك وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين علي كسوة
    العيال عامنا هذا من عطائي فقال له لك ذلك ولم يصده عنه ولا سمح بالإنفاق
    من أموال المسلمين‏.‏ فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة
    وأبوته وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها أن يعاقر
    الخمر أو يجاهر بها‏.‏ وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب
    الخمر معلومة ولم يكن الكرم شجرتهم وكان شربها مذمة عند الكثير منهم
    والرشيد وأباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم
    والتخلق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب‏.‏ وانظر ما نقله الطبري
    والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته
    فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرشيد وارتاب به ودس
    خادمه حتى عاينه يتناوله فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في
    ثلاثة أقداح‏:‏ خلط إحداهما باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد
    والحلوى وصب على الثانية ماء مثلجاً وعلى الثالثة خمراً صرفاً‏.‏ وقال في
    الأول والثاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه وقال
    في الثالث‏:‏ هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه
    الرشيد وأحضره للتوبيخ أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط
    وأماع وتفتت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما‏.‏ فكانت له في ذلك
    معذرة‏.‏ وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند
    بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من
    انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع‏.‏ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر
    على مذهب أهل العراق‏.‏ وفتاويهم فيها معروفة وأما الخمر الصرف فلا سبيل
    إلى اتهامه به ولا تقليد الأخبار الواهية فيها‏.‏ فلم يكن الرجل بحيث يواقع
    محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة‏.‏ ولقد كان أولئك القوم كلهم
    بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما
    كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد‏.‏ فما ظنك
    بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلية إلى الحرمة‏.‏ ولقد اتفق
    المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية
    وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق
    والسيوف واللجم والسروج وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز
    بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد‏.‏ وهكذا كان حالهم أيضاً في ملابسهم
    فما ظنك بمشاربهم ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها
    من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله‏.‏ والله
    الهادي إلى الصواب‏.‏ ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن
    أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن
    في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه‏:‏ يا سيدي وأمير الناس كلهم قد
    جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل
    والدين وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد‏.‏ وشرابه إنما كان
    النبيذ ولم يكن محظوراً عندهم‏.‏ وأما السكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون
    إنما كانت خفة في الدين‏.‏ ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت‏.‏ ونقل من
    فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس ويتلمس
    الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم‏.‏ وثبت أنهما كانا يصليان الصبح
    جماعة‏.‏ فأين هذا من المعاقرة‏.‏ وأيضاً فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل
    الحديث‏.‏ وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرج عنه
    الترمذي كتابه الجامع وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامح
    فالقدح فيه قدح في جميعهم‏.‏ وكذلك ما يثبجه المجان بالميل إلى الغلمان
    بهتاناً على الله وفريه على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص
    الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسوداً في كماله وخلته ولقد
    ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا
    وأنكر ذلك إنكارا شديداً‏.‏ وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان
    يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد وقال أيضاً‏:‏
    يحيي بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمى به من أمر
    الغلمان ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنه كانت فيه
    دعابة وخسن خلق فرمي به‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ لا يشتغل بما
    يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه‏.‏ ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد
    ربه صاحب العقد من حديت الزنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في
    بنته بوران وأنه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى
    من بعض السطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل من الحرير فاقتعده وتناول المعالق
    فاهتزت وذهب صعداً إلى مجلس شأنه كذا‏.‏ ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته
    وجمال رؤيته ما يستوقف الطرف ويملك النفس وأن امرأة برزت له من خلل الستور
    في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن فحيته ودعته إلى المنادمة فلم
    يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد
    شغفته حباً بعثه‏.‏ على الإصهار إلى أبيها‏.‏ وأين هذا كله من حال المأمون
    المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من أبائه وأخذه بسير
    الخلفاء الأربعة‏.‏ أركان الملة ومناظرته للعلماء وحفظه لحدود الله تعالى
    في صلواته وأحكامه‏.‏ فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف
    بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر سبيل عشاق الأعراب‏.‏ وأين ذلك من منصب
    ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف‏.‏ وأمثال
    هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤزخين معروفة وإنما يبعث على وضعها والحديث
    بها الانهماك في اللذات المحرمة وهتك قناع المخدرات ويتعللون بالتأسي
    بالقوم فيما يأتونة من طاعة لذاتهم فلذلك تراهم كثيراً ما يلهجون بأشباه
    هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين‏.‏ ولو ائتسوا ا بهم
    في هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيراً لهم
    لو كانوا يعلمون‏.‏ ولقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه
    بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له‏:‏ ليس هذا من شأنك نذ ولا يليق
    بمنصبك فقال لي‏:‏ أفلا ترى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة
    ورئيس المغنين في زمانه فقلت له‏:‏ ياسبحان الله وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه
    أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم‏!‏ فصم عن عذلي وأعرض‏!‏
    والله يهدي من يشاء‏.‏ ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من
    المؤرخين والأثبات في العبيدين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم
    عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن
    جعفر الصادق‏.‏ يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني
    العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنناً الشمات بعدوهم حسبما نذكر
    بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة
    الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم‏.‏ فإنهم متفقون
    في حديثهم عن مبدإ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة
    للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي أبي القاسم
    خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر وأنهما خرجا
    من الإسكندرية في زي التجار ونمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر
    والإسكندرية فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما
    بما لبسوا به من الشارة والزي فأفلتوا إلى المغرب وأن المعتضد أوعز إلى
    الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بآخذ الآفاق
    عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر إليسع صاحب سجلماسة من آل مدرار على
    خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة هذا قبل أن تظهر الشيعة على
    الأغالبة بالقيروان‏.‏ ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب
    وإفريقية ثم باليمن ثم بالإسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز‏.‏ وقاسموا بني
    العباس في ممالك الإسلام شق الإبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون
    من أمرهم‏.‏ ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي
    الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء
    العجم وخطب لهم على منابرها حولاً كاملاً‏.‏ وما زال بنو العباس يغضون
    بمكانهم ودولتهم وملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم‏.‏
    وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر‏.‏ واعتبر حال
    القرمطي إذ كان دعياً في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت أتباعه وظهر
    سريعاً على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم‏.‏ ولو كان أمر
    العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة‏:‏ ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن
    خالها تخفى على الناس تعلم فقد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة
    وملكوا مقام إبراهيم عليه السلام ومصلاه وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم
    ومدفنة وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على
    أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام
    إسماعيل بن جعفر الصادق‏.‏ ولقد خرجوا مراراً بعد ذهاب الدولة ودروس آثرها
    داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة
    ويذهبون إلى تعيينهم بالوصيه ممن سلف قبلهم من الأئمة‏.‏ ولو ارتابوا في
    نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في
    أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحلة‏.‏ والعجب من القاضي أبي
    بكر الباقلاني شيخ النطارمن المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى
    هذا الرأي الضعيف‏.‏ فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين
    والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم
    بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في
    شأن ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم‏.‏
    وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها‏:‏ ‏"‏ يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك
    من الله شيئاً ‏"‏‏.‏ ومتى عرف امرؤ قضية أو استيقن أمراً وجب عليه أن
    يصدع به والله يقول الحق وهو يهدي السييل والقوم كانوا في مجال لظنون الدول
    بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرر
    خروجهم مرة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما
    قيل‏:‏ فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت وأين مكاني ما عرفن مكانيا حتى لقد
    سمي محمد بن اسماعيل جد الإمام عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم
    لما اتفقوا عليه من إخفائه حذراً من المتغلبين عليهم‏.‏ فتوسل شيعة بني
    العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم‏.‏ وازدلفوا بهذا الرأي الفائل
    للمستضعفين خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع
    الأعداء يدفعون عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن
    غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتاميين شيعة العبيديين وأهل
    دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب وشهد بذلك عندهم من
    أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي وأخوه المرتضى وابن البطحاوي ومن
    العلماء أبو حامد الأسفراييني والقدوري والصيمري وابن الأكفاني والأبيوردي
    وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة وغيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم
    مشهود وذلك لسنة ستين وأربعمائة في أيام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على
    السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون
    في هذا النسب فنقله الإخباريون كما سمعوه حسبما وعوه والحق من ورائه‏.‏ وفي
    كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة
    أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل
    أحد‏.‏ والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع
    وتلتمس فيه ضوال الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار وما نفق فيها
    نفق عند الكافة‏.‏ فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل والأفن والسفسفة
    وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص
    واللجين المصفى وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والبطل
    نفق البهرج والزائف‏.‏ والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه‏.‏
    ومثل هذا وأبعد منه كثيراً مايتنناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن
    عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم
    أجمعين الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرضون تعريض الحسد بالتظنن في
    الحمل المخلف عن إدريس الأكبر أنه لراشد مولاهم قبحهم الله وأبعدهم ما
    أجهلهم‏!‏ أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنه منذ دخل
    المغرب إلى أن توفاه الله عز وجل عريق في البدو وأن حال البادية في مثل ذلك
    غير خافية إذ لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من
    جاراتهن ومسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران وتطامن البنيان وعدم الفواصل بين
    المساكن‏!‏ وقد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاة بمشهد من
    أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافتهم‏.‏ وقد اتفق برابرة المغرب الأقصى عامة
    على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه وأتوه طاعتهم عن رضا وإصفاق وبايعوه
    على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته‏.‏ ولو حدثوا
    أنفسهم بمثل هذه الريبة أو قرعت أسماعهم ولو من عدو كاشح أو منافق مرتاب
    لتخلف عن ذلك ولو بعضهم‏.‏ كلا والله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس
    أقتالهم ومن بني الأغلب عمالهم كانوا بإفريقية وولاتهم‏.‏ وذلك أنه لما فر
    إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبه أن يقعدوا
    له بالمراصد ويذكوا عليه العيون فلم يظفروا به وخلص إلى المغرب فتم أمره
    وظهرت دعوته وظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على
    الإسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية وإدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب‏.‏
    فقتلة ودس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس فأظهر اللحاق
    به والبراءة من بني العباس مواليه‏.‏ فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله
    الشماخ في بعض خلواته سماً استهلكه به‏.‏ ووقع خبر مهلكه من بني العباس
    أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب واقتلاع
    جرثومتها‏.‏ ولما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا
    ولا‏.‏ وإذا بالدعوة قد عادت والشيعة بالمغرب قد ظهرت ودولتهم بإدريس بن
    إدريس قد تجمدت فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السهام وكان الفشل والهرم قد
    نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية - فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على
    إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب واشتمال البربر عليه إلا التحيل في
    إهلاكه بالسموم‏.‏ فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سد
    تلك الفرجة من ناحيتهم وحسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم واقتلاع تلك
    العروق قبل أن تشبح منهبم يخاطبهم بذلك المأمون ومن بعده من خلفائهم‏.‏
    فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز ولمثلها من الزبون على ملوكهم
    أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها وامتطائهم صهوة
    التغلب عليها وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها
    وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم‏:‏ خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول
    ما قالا له كما تقول الببغا فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات
    وتلوا بالمعاذير فطوراً باحتقار المغرب وأهله وطوراً بالإرهاب بشأن إدريس
    الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التخوم من عمله
    وينفذون سكته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم تعريضاً باستفحاله
    وتهويلاً باشتداد شوكته وتعظيماً لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه
    وتهديداً بقلب الدعوة إن ألجئوا إليه وطوراً يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك
    الطعن الكاذب تخفيضاً لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه لبعد المسافة وأفن
    عقول من خلف من صبية بني العباس ومماليكهبم العجم في القبول من كل فائل
    والسمع لكل ناعق‏.‏ ولم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه
    الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء وصر عليها بعص الطاعنين أذنه واعتدها ذريعة
    إلى النيل من خلفهم عند المنافسة‏.‏ وما لهم قبحهم الله والعدول عن مقاصد
    الشريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون‏.‏ وإدريس ولد على فراش أبيه
    والولد للفراش‏.‏ على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان
    فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً‏.‏ ففراش إدريس طاهر من
    الدنس ومنزة عن الرجس بحكم القرآن‏.‏ ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه
    وولج الكفر من بابه‏.‏ وإنما أطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب ودفعاً
    في صدر الحاسد لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم
    بفريته وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب ممن انحرف عن أهل البيت وارتاب في
    الإيمان بسلفهم‏.‏ وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه ونفي العيب حيث
    يستحيل العيب عيب‏.‏ لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا وأرجو أن يجادلوا
    عني يوم القيامة‏.‏ ولتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة
    لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإن ادعاء هذا النسب
    الكريم دعوى شرف عريض على الأمم والأجيال من أهل الأفاق فتعرض التهمة
    فيه‏.‏ ولما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فاس وسائر ديار المغرب قد
    بلغ من الشهرة والوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو
    نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف وبيت جدهم إدريس مختط
    فاس ومؤسسها بين بيوتهم ومسجده لصق محلتهم ودروبهم وسيفه منتضى برأس
    المئذنة العظمى من قرار بلدهم وغير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود
    التواتر مرات وكادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما
    أتاهم الله من أمثالها وما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم
    بالمغرب واستيقن أنه بمعزل عن ذلك وأنه لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه وأن
    غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن
    يسلم لهم حالهم لأن الناس مصدقون في أنسابهم وبون ما بين العلم والظن
    واليقين والتسليم فإذا علم ذلك من نفسه غص بريقه وود كثير منهم لو يردونهم
    عن شرفهم ذلك سوقة ووضعاء حسداً من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب
    اللجاج والبهت بمثل هذا الطعن الفائل والقول المكذوب تعللاً بالمساواة في
    الظنة والمشابهة في تطرق الاحتمال وهيهات لهم ذلك‏.‏ فليس في المغرب فيما
    نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب
    إدريس هذا من آل الحسن‏.‏ وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى
    الحوطي بن محمد يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل
    البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة
    حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة إن شاء الله تعالى‏.‏ ويلحق بهذه المقالات
    الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح
    في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما
    آتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي قبله وتكذيبهم لجميع
    مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت‏.‏
    وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه‏.‏ فإنهم
    لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم ثم امتاز
    عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه
    بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته‏.‏ وأيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك
    لمتونة أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السذاجة
    وانتحال الديانة‏.‏ فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب
    للشورى كل في بلده وعلى قدره في قومه‏.‏ فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحرباً
    لعدوهم ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهما والتثريب عليهم والمناصبة
    لهم تشيعاً للمتونة وتعصباً لدولتهم‏.‏ ومكان الرجل غير مكانهم وحاله على
    غير معتقداتهم‏.‏ وماظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف
    اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من
    أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصاراً وحامية
    وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت
    ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك
    الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم ودالت بالعدوتين من الدول
    وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا حتى قبضه
    الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح
    إليه النفوس وتخادع عن تمنيه‏.‏ فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه
    الله وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله‏.‏ ومع هذا فلو كان قصده غير
    صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ وأما
    إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم مع أنه إن ثبت أنه ادعاه
    وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدقون في أنسابهم‏.‏ وإن
    قالوا إن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما
    يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب والرجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا
    بانباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دغوته
    فاعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه ولا اتبعه الناس
    بسببه وإنما كان اتباعهم له بعصبية الهرغية والمصمودية ومكانه منها ورسوخ
    شجرته فيها‏.‏ وكان ذلك النسب الفاطمي خفياً قد درس عند الناس وبقي عنده
    وعند عشيرته يتناقلونه بينهم‏.‏ فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه ولبس
    جلدة هؤلاء وظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته إذ هو مجهول عند
    أهل العصابة‏.‏ ومثل هذا واقع كثيراً إذ كان النسب الأول خفياً‏.‏ وانظر
    قصه عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة
    حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهم منه
    وجه الحق‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏ وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب
    بالإطناب في هذه المغالط فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ
    في مثل هذه الأحاديث والأراء وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة
    النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا روية
    واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً وناظره مرتبكاً
    وعد من مناحي العامة‏.‏ فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة
    وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق
    والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة
    ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق
    منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها وأسباب حدوثها
    ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل
    حادث واقفاً على أصول كل خبر‏.‏ وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من
    القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً وإلا زيفه واستغنى
    عنه‏.‏ وما استكير القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري
    والبخاري وابن إسحق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن
    هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في
    المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل
    واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور‏.‏ ومن الغلط الخفي
    في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور
    الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد
    يتفطن له إلا الأحاد من أهل الخليقة‏.‏ وذلك أن أحوال العالم والأمم
    وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على
    الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات
    والأمصار فكذلك يقع‏!‏ في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي
    قد خلت في عباده‏.‏ وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون
    والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم
    وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء
    جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم‏.‏ ثم جاء من بعدهم الفرس
    الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما
    يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها‏.‏ ثم جاء الإسلام بدولة
    مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا
    العهد يأخذه الخلف عن السلف‏.‏ ثم درلست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف
    الذين شيدوا عزهم ومهدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل
    الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهما أمم
    وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها‏.‏ والسبب الشائع في تبدل
    الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال
    الحكمية‏:‏ الناس على دين الملك‏.‏ وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على
    الدولة والأمر فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذ الكثير منها
    ولايغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك‏.‏ فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد
    الجيل الأول‏.‏ فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها
    خالفت أيضاً بعض الشيء وكانت للأولى أشد فخالفة‏.‏ ثم لا يزال التدريج في
    المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة‏.‏ فما دامت الأمم والأجيال
    تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة‏.‏
    والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع
    الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من
    أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول
    وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيراً فيقع في
    مهواة من الغلط‏.‏ فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن
    أباه كان من المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية
    البعيدة من اعتزاز أهل العصبية والمعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم‏.‏ فيتشوف
    الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي
    ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات لهم‏.‏ فتذهب بهم وساوس المطامع وربما
    انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف ولا يعلمون
    استحالتها في حقهم وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأن التعليم صدر الإسلام
    والدولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلاً لما سمع
    من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب
    والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله
    عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو
    كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه
    وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه
    للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة‏.‏ ويشهد لذلك بعث
    النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام
    وما جاء به من شرائع الدين‏.‏ بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم‏.‏
    فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي
    أهلها واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من
    النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك القانون لمن يحفظه من الخطإ وصار
    العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأاصبح من حملة الصنائع والحرف كما يأتي ذكره
    في فصل العلم والتعليم واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع
    للعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل
    السلطان عن التصدي للتعليم واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقراً
    عند أهل العصبية والملك‏.‏ والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف
    وأشرافهم ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت‏.‏ ولم يكن
    تعليمة للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما
    كان على ما وصفناه من الأمر الأول في ا لإسلام‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً ما
    يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من
    الرياسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب
    يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل يظنون
    بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية
    إذا سمعوا إن أباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطنون
    لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من
    الكتاب الأول‏.‏ وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين
    بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها وكان مكانهم فيها معلوماً ولم يكن
    نيلهم لما نالوه كل الرياسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما
    كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها كما هي
    الوزارة لعهدنا بالمغرب‏.‏ وانظر خروجهم بالعساكر في الطوائف وتقليدهم
    عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في
    ذلك ويحمل الأحوال على غيرما هي‏.‏ وأكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء
    البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار
    بعيدة لفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر
    فبقيت أنسابهم العربية محفوظة والذريعة إلى العز من العصبية والتناصر مفقود
    بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبدهم القهر ورئموا للمذلة
    يحسبون أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب والتحكم فتجد
    أهل الحرف والصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله‏.‏ فأما من باشر أحوال
    القبائل والعصبية ودولهم بالعدوة الغربية وكيف يكون التغلب بين الأمم
    والعشائر فقلما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً
    ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه
    وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي
    الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم‏.‏ والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون
    تواريخهم لأهل الدولة وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم
    ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم
    وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم‏.‏ والقضاة أيضاً كانوا من
    أهل عصبية الدولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك
    كله‏.‏ وأما حين تباينت الدول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة
    الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في قوتها وغلبتها ومن كان
    يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر
    الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة
    لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد
    والغفلة وعن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ
    اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم كالحجاج
    وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الأخشيدي وابن أبي عامر
    وأمثالهم فغير نكير الإلماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في
    عداد الملوك‏.‏ ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أن
    التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل‏.‏ فأما ذكر الأحوال
    العامة للأفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده
    وتتبين به أخباره‏.‏ وقد كان الناس يفردونة بالتآليف كما فعله المسعودي في
    كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم والأفاق لعهده في عصر الثلاثين
    والثلاثمائة غرباً وشرقاً وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال
    والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم فصار إماماً للمؤرخين
    يرجعون إليه وأصلاً يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه‏.‏ ثم جاء
    البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من
    الأحوال لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم
    تغير‏.‏ وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب
    الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن
    طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم
    وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى
    ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون
    الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران
    ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل
    من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقض
    عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم
    وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن‏.‏ وكأني بالمشرق
    قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه‏.‏ وكأنما نادى
    لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر باإاجابة‏.‏ والله وارث
    الأرض و
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:27 pm

    المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم
    قد بينا أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في
    الجنوب منه والبرد في الشمال‏.‏ ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب
    متضادين في الحر والبرد وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون
    معتدلاً‏.‏ فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس
    أقرب إلى الإعتدال والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الإعتدال‏.‏
    والأول والسابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس
    والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجمبع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة
    المتوسطة مخصوصة الاعتدال‏.‏ وسكانها من البشر أعدل أجساما وألواناً
    وأخلاقاً وأدياناً حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها‏.‏ ولم نقف على
    خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية‏.‏ وذلك أن الأنبياء والرسل
    إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس
    ‏"‏ وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله‏.‏ وأهل هذه
    الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم
    وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة
    بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى
    الغاية‏.‏ وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس
    والرصاص والقصدير‏.‏ ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين‏.‏ ويبعدون
    عن الانحراف في عامة أحوالهم‏.‏ وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن
    والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة
    والجلالقة والروم واليونانيين ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه
    الأقاليم المعتدلة‏.‏ ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من
    جميع الجهات‏.‏ وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول والثاني
    والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم‏.‏ فبناؤهم
    بالطين والقصب وأقواتهم من الذرة والعشب وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها
    عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة
    التكوبن مائلة إلى الانحراف‏.‏ ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس
    أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات‏.‏ وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق
    الحيوانات العجم‏.‏ حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم
    يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل
    بعضهم بعضاً وكذا الصقالبة‏.‏ والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب
    عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار
    ذلك‏.‏ وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة
    إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر مثل الحبشة
    المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد
    ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام
    لهذا العهد يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة ومثل من دان بالنصرانية
    من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال‏.‏ ومن سوى هؤلاء من أهل تلك
    الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم
    وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم‏:‏ ‏"‏ ويخلق ما لا تعلمون
    ‏"‏ ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز
    واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني فإن جزيرة
    العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر
    في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر وصار فيها
    بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر‏.‏ وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه
    بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة
    كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه
    وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص‏.‏ ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع
    في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد
    إخوته لا غير‏.‏ وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر والبرد
    وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات‏.‏ وذلك أن هذا اللون شمل
    أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإن
    الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول
    المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود
    جلودهم لإفراط الحر‏.‏ ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال
    الإقليم السابع والسادس‏.‏ شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد
    المفرط بالشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب
    منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها ويشتد البرد
    عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة‏.‏ ويتبع ذلك ما يقتضيه
    مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور‏.‏ وتوسطت
    بينهما الأقاليم الثلاثة‏:‏ الخامس والرابع والثالث فكان لها في الاعتدال
    الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر‏.‏ والرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته
    في التوسط كما قدمناه‏.‏ فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه
    مزاج أهويتهم‏.‏ وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التوسط
    لميل هذا قليلاً إلى الجنوب الحار وهذا قليلاً إلى الشمال البارد إلا
    أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف‏.‏ وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها
    كذلك في خلقهم وخلقهم‏.‏ فالأول والثاني للحر والسواد والسابع والسادس
    للبرد والبياض‏.‏ ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم
    الحبشة والزنج والسودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد وإن كان
    اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة واليمن والزنج بمن تجاه بحر الهند‏.‏
    وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره‏.‏
    وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف
    إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام‏.‏ وبالعكس فيمن
    يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب تسود ألوان أعقابهم‏.‏ وفي ذلك دليل
    على أن اللون تابع لمزاج الهواء‏.‏ قال ابن سينا في أرجوزته في الطب‏:‏
    والصقلب اكتسبت البياضا حتى غدت جلودها بضاضا وأما أهل الشمال فلم يسموا
    باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء‏.‏
    فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده‏.‏
    ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والطغرغر والخزر واللان والكثير من
    الإفرنجة ويأجوج ومأجوج أسماء متفرقة وأجيالاً متعددة مسمين بأسماء
    متنوعة‏.‏ وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الاعتدال في خلقهم
    وخلقهم وسيرهم وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن
    والصنائع والعلوم والرياسات والملك فكانت فيهم النبوات والفلك والدول
    والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة
    وسائر الأحوال المعتدلة‏.‏ وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل
    العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين‏.‏
    ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل
    الأنساب‏:‏ فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم
    فتكلفوا في تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد
    يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل
    والشرائع والسياسة والملك من ولد سام‏.‏ وهذا الزعم وإن صادف الحق في
    انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو إخبار عن الواقع لا أن تسمية أهل
    الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود‏.‏ وما أداهم
    إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط
    وليس كذلك‏:‏ فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب
    وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة
    والسودان ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعزب ويكون بغير ذلك من أحوال
    الأمم وخواصهم ومميزاتهم‏.‏ فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو
    شمال بإنهما من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت
    لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان
    والجهات وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها‏:‏ ‏"‏ سنة الله
    في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً ‏"‏ والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم‏.‏
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر
    قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم
    مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر‏.‏ والسبب الصحيح في
    ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح
    الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه وتقرر أن الحرارة
    مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته‏.‏ ولهذا يجد المنتشي من
    الفرح السرور ما لا يعبر عنه وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من
    الحرارة الغريزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح
    وتجيء طبيعة الفرح‏.‏ وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها
    واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح وربما انبعث
    الكثير منهم بالغناء الناشىء عن السرور‏.‏ ولما كان السودان ساكنين في
    الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من
    الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل
    الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر
    انبساطاً ويجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد
    البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر
    وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد
    التلول والجبال الباردة‏.‏ وقد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية
    من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن
    الأرياف والتلول‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها في مثل عرض البلاد
    الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب
    حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم وعامة مآكلهم من أسواقهم‏.‏ ولما
    كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى
    أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم
    ليدخر قهوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن
    يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم وللبلدان تجد في الأخلاق أثراً
    من كيفيات الهواء‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏ وقد تعرض المسعودي للبحث عن
    السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء
    أكثر من أنه نقل عن جالينوس ويعقوب بن أسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم وما
    نشأ عنه من ضعف عقولهم‏.‏ وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه ‏"‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
    ‏"‏ المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن
    ذلك من الأثار في أبدان البشر وأخلاقهم اعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس
    كلها يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله
    خصب العيش من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال
    الطينة ووفور العمران وفيها الأرض الحرة التي لا تنبت زرعاً ولا عشباً
    بالجملة فسكانها في شظف من العيش‏:‏ مثل أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل
    الملثمين من صنهاجة الساكنين بصحراء المغرب وأطراف الرمال فيما بين البربر
    والسودان فإن هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة وإنما أغذيتهم وأقواتهم
    الألبان واللحوم ومثل العرب أيضاً الجائلين في القفار فإنهم وإن كانوا
    يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين وتحت ربقة من
    حاميتها وعلى الإقلال لقلة وجدهم فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أودونها
    فضلاً عن الرغد والخصب وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوضهم
    من الحنطة أحسن معاض‏.‏ وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل
    القفار أحسن حالاً في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش‏:‏
    فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من
    الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات‏.‏ هذا أمر تشهد له التجربة
    في كل جيل منهم‏.‏ فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه وبين الملثمين
    وأهل التلول‏.‏ يعرف ذلك من خبره والسبب في ذلك واللة أعلم إن كثرة الأغذية
    وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ
    عنها بعد أقطارها في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من
    كثرة اللحم كما قلناه وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى
    الدماغ من ابخرتها الرديئة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال
    بالجملة‏.‏ واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام
    والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول
    والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها وحسن
    رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدة مداركها‏.‏ فالغزال أخو المعز
    والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما
    رأيت‏.‏ وما ذااك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات
    الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره والجوع لحيوان القفر حسن في
    خلقها وأشكالها ما شاء‏.‏ واعتبر ذلك فى الأدميين أيضاً‏:‏ فإنا نجد أهل
    الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والأدم والفواكه يتصف أهلها
    غالباً بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم‏.‏ وهذا شأن البربر
    المنغمسين في الأدم مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة
    مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم
    وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسون في الأدم والبر مع أهل
    الأندلس وخفة الأجسام وقبول التعليم مالايوجد لغيرهم‏.‏ وكذا أهل الضواحي
    من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار‏.‏ فإن أهل الأمصار وإن كانوا
    مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج
    بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها وعامة
    مآكلهم لحوم الضآن والدجاج ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل
    الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الرديئة‏.‏
    فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البادية
    المخشنين في العيش‏.‏ وكذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لافضلات في
    جسومهم غليظة ولا لطيفة‏.‏ واعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر
    حتى في حال الدين والعبادة فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن
    يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من
    أهل الترف والخصب‏.‏ بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار لما يعمها
    من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر‏.‏
    ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي‏.‏
    وكذلك نجد حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفاً باختلاف حالها في الترف
    والخصب‏.‏ وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل
    البادية وأهل الحواضر والأمصار إذا نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات يسرع
    إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما
    يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر والصحراء ولا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب
    عيشهم التمر ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير
    والزيت وأهل الأندلس الذين غالب عيشهم الذرة والزيت فإن هؤلاء وإن اخذتهم
    السنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك
    بالجوع بل ولا يندر‏.‏ والسبب في ذلك والله أعلم أن المنغمسين في الخصب
    المتعودين للأدم والسمن خصوصاً تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها
    الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات وفقدان
    الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعي اليبس
    والانكماش وهو عضو ضعيف في الغاية فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنه
    من المقاتل‏.‏ فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا
    الجوع الحادث اللاحق‏.‏ وأما المتعودون للعيمة وترك الأدم والسمن فلا تزال
    رطوبتهم الأصلية واقفة عند حدها من غير زيادة وهي قابلة لجميع الأغذية
    الطبيعية فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس ولا انحراف فيسلمون في الغالب
    من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل‏.‏ وأصل هذا كله
    أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة‏.‏ فمن عود نفسه
    غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفاً وصار الخروج عنه والتبدل به داء ما لم
    يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم واليتوع وما أفرط في الانحراف‏.‏ فأما
    ما وجد فيه التغذي والملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة‏.‏ فإذا أخذ
    الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد
    حصل له ذلك غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك‏.‏ وكذا من عود
    نفسه الصبرعلى الجوع والاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضات فإنا
    نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها‏.‏ والسب في ذلك
    العادة فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة
    التلون فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة
    طبيعية لها‏.‏ وما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه
    إلا إذا حملت النفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكلية فإنه حينئذ ينحسم
    المعي ويناله المرض الذي يخشى معه الهلاك‏.‏ وإذا كان ذلك القدر تدريجاً
    ورياضة بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً كما يفعله المتصوفة فهو بمعزل عن
    الهلاك‏.‏ وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة‏.‏ فإنه إذا
    رجع به إلى الغذاء الأول دفعة خيف عليه الهلاك وإنما يرجع به كما بدأ في
    الرياضة بالتدريج‏.‏ ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً وصالاً
    وأكثر‏.‏ وحضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من
    أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع
    أمرهما ووقع اختبارهما فصح شأنهما واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتت‏.‏ ا
    ورأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم
    ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس
    عشرة سنة كثير ولا يستنكر ذلك‏.‏ واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار
    الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على منها وأن له أثراً في الأجسام والعقول
    في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر بآثار الأغذية التي تحصل عنها في
    الجسوم‏.‏ فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان
    تنشأ أجيالهم كذلك‏.‏ وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا
    المتغذون بألبان الإبل ولحومها أيضاً مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر
    والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضاً
    على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا الضعف ولا
    ينالها من مضار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم
    غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيرن ولا ينال أمعاءهم منها
    ضرر‏.‏ وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقه أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف
    الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية‏.‏ ومن
    تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التجربة أن
    الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه
    جاء الدجاج منها أعظم ما يكون‏.‏ وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح
    ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم‏.‏ وأمثال ذلك كثير
    فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثاراً
    في الأبدان لأن الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع
    في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم
    والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم‏.‏ والله محيط بعلمه‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا
    اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه وفطرهم على
    معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على
    هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة‏.‏ وكان فيما
    يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات
    المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا
    يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا وإني لا
    أعلم إلا ما علمني الله ‏"‏‏.‏ واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته
    الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة‏.‏ وعلامة هذا الصنف من البشر أن
    توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء
    في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء
    الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية‏.‏ ثم
    يتنزل إلى المدارك البشرية‏:‏ إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له
    صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله‏.‏ ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد
    وعى ما ألقي إليه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوحى‏:‏ ‏"‏
    أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال
    وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول ‏"‏‏.‏ ويدركه أثناء
    ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه‏.‏ ففي الحديث‏:‏ ‏"‏ كان مما يعالج من
    التنزيل شدة وقالت عائشة‏:‏ ‏"‏ كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد
    فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً
    ‏"‏‏.‏ ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء
    بالجنون ويقولون‏:‏ له رئي أو تابع من الجن‏.‏ وإنما لبس عليهم بما شاهدوه
    من ظاهر تلك الأحوال‏:‏ ‏"‏ ومن يضلل الله فما له من هاد
    ‏"‏‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء
    ومجانبة المذمومات والرجس أجمع‏.‏ وهذا هو معنى العصمة‏.‏ وكأنه مفطورعلى
    التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته‏.‏ وفي الصحيح أنه
    حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف
    فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب
    فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله
    عن ذلك كله حتى أنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة‏.‏ فقد كان صلى
    الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ إني اناجي
    من لا تناجون ‏"‏‏.‏ وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي
    الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت‏:‏ ‏"‏ إجعلني
    بينك وبين ثوبك ‏"‏ فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت‏:‏ ‏"‏ إنه ملك وليس بشيطان
    ‏"‏ ومعناه إنه لا يقرب النساء‏.‏ وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن
    يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من
    ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر الشياطين وأمثال ذلك‏.‏ ومن
    علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف‏.‏
    وقد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك وكذلك أبو بكر ولم
    يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه‏.‏ وفي الصحيح أن هرقل حين
    جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده
    من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال‏:‏ بم
    يأمركم فقال أبو سفيان‏:‏ بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل
    فأجابه فقال‏:‏ ‏"‏ إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين
    ‏"‏‏.‏ والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة‏.‏ فانظر كيف أخذ من العصمة
    والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة‏.‏
    فدل على أن ذلك من علامات النبوة‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب
    في قومهم‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ‏"‏
    وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مساءلة
    هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال‏:‏ ‏"‏ كيف هو فيكم ‏"‏ قال أبو
    سفيان‏:‏ ‏"‏ هو فينا ذو حسب فقال هرقل‏:‏ والرسل تبعث في أحساب قومها‏.‏
    ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم
    مراد الله من إكمال دينه وملته‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم
    شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس
    مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم‏.‏ وللناس في كيفية وقوعها
    ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف‏.‏ فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل
    المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي وإن كانت أفعال
    العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم‏.‏
    وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله وهو أن يستدل
    بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه‏.‏ فإذا وقعت
    تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصدق
    قطعية‏.‏ فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي ولذلك كان التحدي جزءاً
    منها‏.‏ وعبارة المتكلمين صفة وهو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم‏.‏ والتحدي
    هو الفارق بينها وبين الكرامة والسحر إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا
    وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً‏.‏ وإن وقع التحدي في الكرامة عند من
    يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبوة‏.‏ ومن هنا
    منع الأستاذ أبو إسحق وغيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبوة
    عند التحدي بالولاية‏.‏ وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحى بغير
    مايتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً وربما
    حمل على وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من
    أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق‏.‏ وأما وقوعها على يد الكاذب
    تلبيساً فهو محال‏.‏ أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق
    والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة والهداية ضلالة والتصديق
    كذباً واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال
    لا يكون ممكناً‏.‏ وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة
    قبيح فلا يقع من الله‏.‏ وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي ولو كان
    في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها
    عن بعض متوقف على الأسباب والشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب
    الفاعل بالذات لا بالاختيار وأن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها
    صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين‏.‏ والنبي عندهم
    مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له
    من ذلك‏.‏ والخارق عندهم يقع للنبي سواء أكان للتحدي أو لم يكن وهو شاهد
    بصدقه من حيث دلالتها على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس
    النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق‏.‏ فلذلك لا تكون
    دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين ولا يكون التحدي جزءاً من
    المعجزة ولم يصح فارقاً لها عن السحر والكرامة‏.‏ وفارقها عندهم عن السحر
    أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه
    والساحر على الضد فأفعاله كلها شر وفي مقاصد الشر‏.‏ وفارقها عن الكرامة أن
    خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء والنفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء
    الموتى وتكليم الملائكة والطيران في الهواء وخوارق الولي دون ذلك كتكثير
    القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء‏.‏
    ويأتي النبي بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء‏.‏ وقد قرر
    ذلك المتضوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم‏.‏ وإذا تقرر ذلك
    فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على
    نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي
    الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه والقرآن هو بنفسه الوحي
    المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له
    كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه‏.‏
    وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من
    الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أتيته وحياً أوحي إلي‏.‏
    فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ‏"‏ يشير إلى أن المعجزة متى
    كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق
    لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة‏.‏
    تفسير حقيقة النبوة ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثيرمن
    المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين وغير ذلك من
    مدارك الغيب فنقول‏:‏ اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه
    من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات
    واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه
    في ذلك ولا تنتهي غاياته‏.‏ وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني‏.‏
    وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى
    الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض‏.‏ وكل واحد منها مستعد إلى أن
    يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الأوقات‏.‏ والصاعد منها
    ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات
    اتصل بعضهما ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط وبها يهتدي
    بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها
    هذه الآثار فيها‏.‏ ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم
    النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج‏.‏ آخر أفق المعادن متصل بأول
    أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم
    متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط
    ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب
    لأن يصير أول أفق الذي بعده‏.‏ واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في
    تدريج التكوين إلى الانسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القدرة
    الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك
    أول أفق من الإنسان بعده‏.‏ وهذا غاية شهودنا‏.‏ ثم إنا نجد في العوالم على
    اختلافها آثاراً متنوعة‏:‏ ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر
    وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً
    مبايناً للأجسام‏.‏ فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في
    وجودها وذلك هو النفس المدركة والمحركة‏.‏ ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها
    الإدراك والحركة ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً
    وهو عالم الملائكة‏.‏ فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من
    البشرية الى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في
    لمحة من اللمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد
    ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه‏.‏
    فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل‏:‏ فهي متصلة بالبدن من أسفل منها
    ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ومتصلة
    من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية
    فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان‏.‏ وهذا ما قدمناه من
    الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض‏.‏ ثم إن هذه
    النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنه وجميع
    أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنفس ولقواها أما الفاعلية فالبطش باليد
    والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعاً‏.‏ وأما
    المحركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن
    المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى لظاهرة بآلاته من السمع والبصر
    وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوله الحس وهو قةة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة
    وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات
    لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال وهي قوة
    تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط‏.‏ وآلة
    هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ‏:‏ مقدمة للأولى ومؤخرة
    للثانية‏.‏ ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني
    المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب‏.‏
    والحافظة لإيداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة وهي لها كالخزانة تحفظها
    لوقت الحاجة إليها‏.‏ وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من
    الدماغ‏:‏ أوله للأولى ومؤخره للأخرى‏.‏ ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر‏.‏
    وآلته البطن الأوسط من الدماغ وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه
    نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لماركب فيها من النزوع للتخلص من درك
    القوة والاستعداد الذي للبشرية وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملإ
    الأعلى الروحاني‏.‏ وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات
    الجسمانية‏.‏ فهي متحركة دائماً ومتوجهة نحو ذلك‏.‏ وقد تنسلخ بالكلية من
    البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل
    الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك‏.‏ أصناف النفوس البشرية
    والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف‏:‏ صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك
    الروحاني فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية
    وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون
    به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن وكلها خيالي منحصر
    نطاقه إذ هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما
    بعدها‏.‏ وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني‏.‏ وإليه تنتهي
    مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم‏.‏ وصنف متوجة بتلك الحركة الفكرية نحو
    العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من
    الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول
    البشري ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها لا نطاق لها من
    مبدئها ولا من منتهاها‏.‏ وهذه مدارك العلما الأولياء أهل العلوم اللدنية
    والمعارف الربانية وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ‏.‏ وصنف
    مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من
    الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل ويحصل له شهود الملإ
    الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة‏.‏
    الوحي وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من
    البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم
    فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب
    في غرائزهم من لقصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في
    طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها‏.‏ فهم يتوجهون إلى
    ذلك الأفق بذلك النةع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها
    لا باكتساب ولا صناعة‏.‏ فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك
    الملإ الأعلى ما يتلقونه وعاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها
    لحكمة التبليغ للعباد‏.‏ فتارة يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ
    منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه‏.‏ وتارة
    يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله‏.‏ والتلقي من
    الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنة في لحظة
    واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعاً فيظهر
    كأنها سريعة ولذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع‏.‏ واعلم أن
    الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غيرالمرسلين على ما حققوه والثانية
    وهي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت
    أكمل من الأولى‏.‏ وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم
    الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال وكيف يأتيك الوحي فقال‏:‏ ‏"‏ أحياناً
    يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحياناً
    يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول‏.‏ وإنما كانت الأولى أشد لأنها
    مبدأ الخروج في ذلك الإتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لما
    عاج فيها على المدارك البشرية بالسمع وصعب ما سواه‏.‏ وعندما يتكرر الوحي
    ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على
    جميعها وخصوصاً الأوضح منها وهو إدراك البصر‏.‏ وفي العبارة عن الوعي في
    الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن
    الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو
    في المتعارف غير كلام وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند
    تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء
    والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم والكلام يساوقه
    الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد‏.‏ واعلم أن في حالة الوحي
    كلها صعوبة على الجملة وشدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً
    ‏"‏ وقالت عائشة‏:‏ ‏"‏ كان مما يعاني من التنزيل شدة وقالت‏:‏ ‏"‏ كان
    ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً
    ‏"‏‏.‏ ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف‏.‏
    وسبب ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي
    كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها
    إلى ذلك الأفق الآخر‏.‏ وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في
    قوله‏:‏ ‏"‏ فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا
    بقارىء وكذا ثانية وثالثة ‏"‏ كما في الحديث‏.‏ وقد يفضي الاعتياد بالتدريج
    فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله‏.‏ ولذلك كان تنزل
    نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة‏.‏ وانظر إلى
    ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه
    وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل
    في وقت وينزل الباقي في حين آخر‏.‏ وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية
    الدين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن
    والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها‏.‏ واعتبر من ذلك علامة تميز بها
    بين المكي والمدني من السور والآيات‏.‏ والله المرشد للصواب‏.‏ هذا محصل
    أمر النبوة‏.‏ الكهانة وأما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية‏.‏
    وذلك أنه وقد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً
    للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر
    في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب
    ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية
    كلاماً اوحركة ولا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشريه إلى الملكية
    بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر‏.‏ وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد
    موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطي التقسيم العقلي وإن هنا صنفاً آخر من
    البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم
    الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان مابينهما‏.‏ فإذا أعطي
    تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته حركتها
    الفكرية بالإردة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة لها
    بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة
    كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان
    فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده
    ويكون كالمشيع له‏.‏ وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة‏.‏
    ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في
    الجزئيات أكثر من الكليات‏.‏ ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها
    آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة
    تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائماً‏.‏ ولا يقوى الكاهن على
    الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان‏.‏ وأرفع أحوال هذا
    الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس
    ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي
    يشيعها من ذ


    عدل سابقا من قبل طلعت شرموخ في الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:42 pm عدل 1 مرات
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:22 pm

    [b]

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cul

















    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cul

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Separator
    بنهر جيحان عند المصيصة ومن غربها‏.‏ وأما بلاد الجزيرة التي يحيط بها
    منعطف جبل اللكام إلى جبل السلسلة ففي جنوبها بلد الرافضة والرقة ثم حران
    ثم سروج والرها ثم نصيبين ثم سمياط وآمد تحت جبل السلسلة‏.‏ و آخر الجزء من
    شماله وهو أيضاً آخر الجزء من شرقيه ويمر في وسط هذه القطعة نهر الفرات
    ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمران في بلاد الأرمن جنوباً إلى أن
    يتجاوزا جبل السلسلة فيمر نهر الفرات من غربي سمياط وسروج وينحرف إلى الشرق
    فيمر بقرب الرافضة والرقة ويخرج إلى الجزء السادس‏.‏ ويمر دجلة في شرق آمد
    وينعطف قريباً إلى الشرق فيخرج قريباً إلى الجزء السادس‏.‏ وفي الجزء
    السادس من هذا الإقليم من غربيه بلاد الجزيرة وفي الشرق منها بلاد العراق
    متصلة بها تنتهي في الشرق إلى قرب آخر الجزء ويعترض من آخر العراق هنالك
    جبل أصبهان هابطاً من جنوب الجزء منحرفاً إلى الغرب فإذا انتهى إلى وسط
    الجزء من آخره في الشمال يذهب مغرباً إلى أن يخرج من الجزء السادس ويتصل
    على سمته بجبل السلسلة في الجزء الخامس فينقطع هذا الجزء السادس بقطعتين
    غربية وشرقية ففي الغربية من جنوبيها مخرج الفرات من الخامس وفي شماليها
    مخرج دجلة منه‏.‏ أما الفرات فأول ما يخرج إلى السادس يمر بقرقيسيا ويخرج
    من هنالك جدول إلى الشمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها ويمر من
    قرقيسيا غير بعيد ثئم ينعطف إلى الجنوب فيمر بقرب الخابور إلى غرب الرحبة
    ويخرج منه جداول من هنالك يمر جنوباً ويبقى صفين في غربيه‏.‏ ثم ينعطف
    شرقاً وينقسم بشعوب فيمر بعضها بالكوفة وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين
    وتخرج جميعاً في جنوب الجزء إلى الإقليبم الثالث فيغوص هنالك في شرق الحيرة
    والقادسية‏.‏ ويخرج الفرات من الرحبة مشرقاً على سمته إلى هيت من شمالها
    يمر إلى الزاب والأنبار من جنوبهما ثئم يصب في دجلة عند بغداد‏.‏ وأما
    نهردجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمر مشرقاً على سمته
    ومحاذياً لجبل السلسلة المتصل بجبل العراق على سمته فيمر بجزيرة ابن عمر
    على شمالها ثم بالموصل كذلك وتكريت وينتهي إلى الحديثة فينعطف جنوباً وتبقى
    الحديثة في شرقه والزاب الكبير والصغير كذلك ويمر على سمته جنوباً وفي غرب
    القادسية إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات ثم يمر جنوباً على غرب
    جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الأقليم الثالث فتنتشر هنالك شعوبه
    وجداوله ثم يجتمع ويصب هنالك في بحر فارس عند عبادان‏.‏ وفيما بين نهر
    الدجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة‏.‏ ويختلط بنهر دجلة
    بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشرقية الشمالية منه وينتهي إلى
    بلاد النهروان قبالة بغداد شرقاً ثم ينعطف جنوباً ويختلط بدجلة قبل خروجه
    إلى الإقليم الثالث‏.‏ ويبقى ما بين هذا النهر وبين جبل العراق والأعاجم
    بلاد جلولاء وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة‏.‏ وأما القطعة الغربية
    من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرقاً إلى آخر الجزء ويسمى جبل
    شهرزور ويقسمها بقطعتين‏.‏ وفي الجنوب من هذه القطعة الصغرى بلد خونجان في
    الغرب والشمال عن أصبهان وتسمى هذه القطعة بلد الهلوس وفي وسطها بلد
    نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غرباً عند ملتقى الجبلين والدينور شرقاً عند
    آخر الجزء‏.‏ وفي القطعة الصغرى الثانية طرف من بلاد أرمينية قاعدتها
    المراغة والذي يقابلها من جبل العراق يسمى باريا وهو مساكن للأكراد والزاب
    الكبير والصغير الذي على دجلة من ورائه‏.‏ وفي آخر هذه القطعة من جهة الشرق
    بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبندقان‏.‏ وفي الزاوية الشرقية الشمالية من
    هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا
    الإقليم من غربه وجنوبه معظم بلاد الهلوس وفيها همذان وقزوين وبقيتها في
    الإقليم الثالث وفيها هنالك أصبهان ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها
    ويمر بالإقليم الثالث ثم ينعطف من الجزء السادس إلى الإقليم الرابع ويتصل
    بجبل العراق في شرقيه الذي مر ذكره هنالك وأنه محيط ببلاد الهلوس في القطعة
    الشرقية‏.‏ ويهبط هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثالث إلى جهة
    الشمال ويخرج إلى هذا الجزء السابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته
    هنالك قاشان ثم قم وينعطف في قرب النصف من طريقه مغرباً بعض الشيء ثم يرجع
    مستديراً فيذهب مشرقاً ومنحرفاً إلى الشمال حتى يخرج إلى الإقليم الخامس
    ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الري في شرقيه ويبدأ من منعطفه جبل
    آخر يمر غرباً إلى آخر الجزء ومن جنوبه من هنالك قزوين ومن جانبه الشمالي
    وجانب جبل الري المتصل معه ذاهباً إلى الشرق والشمال إلى وسط الجزء ثم إلى
    الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر
    طبرستان‏.‏ ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء في نحو النصف من غربه إلى
    شرقه ويعترض عند جبل الري‏.‏ وعند انعطافه إلى الغرب جبل متصل يمر على
    سمته مشرقاً وبانحراف قليل الجنوب حتى يدخل في الجزء الثامن من غربه‏.‏
    ويبقى بين جبل الري وهذا الجبل من عند مبدئهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين
    ومنها بسطام‏.‏ ووراء هذا الجبل قتطعة من هذا الجزء فيها بقية المفازة
    التي بين فارس وخراسان وهي في شرقي قاشان وفي آخرها عند الجبل بلد
    استراباذ‏.‏ وحافات هذا الجبل من شرقيه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من
    خراسان‏.‏ ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثم مرو الشاهجان آخر
    الجزء‏.‏ وفي شماله وشرقي جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء
    شرقاً‏.‏ وكل هذه تحت الجبل‏.‏ وفي الشمال وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم
    وفي غربيه نهر جيحون ذاهباً من الجنوب إلى الشمال‏.‏ ففي عدوته الغربية رم
    وآمل من بلاد خراسان والظاهرية والجرجانية من بلاد خوارزم‏.‏ ويحيط
    بالزاوية الغربية الجنوبية منه جبل استراباذ المعترض في الجزء السابع قبله
    ويخرج في هذا الجزء من غربيه ويحيط بهذه الزاوية وفيها بقية بلاد هراة ويمر
    الجبل في الإقليم الثالث بين هراة والجوزجان حتى يتصل بجبل البتم كما
    ذكرناه هنالك‏.‏ وفي شرقي نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد
    بخارى ثم بلاد الصغد وقاعدتها سمرقند ثم بلاد أسروشنة ومنها خجندة آخر
    الجزء شرقاً‏.‏ وفي الشمال عن سمرقند وأشروسنة أرض إيلاق‏.‏ ثم في الشمال
    عن إيلاق أرض الشاش إلى آخر الجزء شرقاً ويأخذ قطعة من الجزء التاسع في
    جنوب تلك القطعة بقية أرض فرغانة ويخرج من تلك القطعة التي في الجزء التاسع
    نهر الشاش يمر معترضاً في الجزء الثامن إلى أن ينصب في نهر جيحون عند
    مخرجه من هذا الجزء الثامن في شماله إلى الإقليم الخامس‏.‏ ويختلط معه في
    أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التاسع من الإقليم الثالث من تخوم بلاد التبت
    ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التاسع نهر فرغانة‏.‏ وعلى سمت نهر الشاش
    جبل جبراغون يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقاً ومنحرفاً إلى الجنوب حتى
    يخرج إلى الجزء التاسع محيطاً بأرض الشاش ثم ينعطف في الجزء التاسع فيحيط
    بالشاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثالث‏.‏ وبين نهر الشاش
    وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب‏.‏ وبينه وبين أرض بخارى
    وخوارزم مفاوز معطلة‏.‏ وفي زاوية هذا الجزء من الشمال والشرق أرض خجندة
    وفيها بلد إسبيجاب وطراز‏.‏ وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في غربيه بعد
    أرض فرغانة والشاش أرض الخزلجية في الجنوب وأرض الخليجية في الشمال‏.‏ وفي
    شرق الجزء كله أرض الكيماكية‏.‏ ويتصل في الجزء العاشر كله إلى جبل قوقيا
    آخر الجزء شرقاً وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك وهو جبل يأجوج ومأجوج‏.‏
    وهذه الأمم كلها من شعوب الترك انتهى‏.‏
    الإقليم الخامس الجزء الأول منه أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه
    وشرقه لأن البحر المحيط بهذه الجهة الغربية دخل في الإقليم الخامس والسادس
    والسابع عن الدائرة المحيطة بالإقليم‏.‏ فأما المنكشف من جنوبه فقطعة على
    شكل مثلث متصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيتها‏.‏ ويحيط بها البحر من
    جهتين كأنهما ضلعان محيطان بزاوية المثلث ففيها من بقية غرب الأندلس سعيور
    على البحر عند أول الجزء من الجنوب والغرب وسلمنكة شرقاً عنها وفي جوفها
    سمورة‏.‏ وفي الشرق عن سلمنكة آبلة آخر الجنوب وأرض قشتالة شرقاً عنها
    وفيها مدينة شقونية‏.‏ وفي شمالها أرض ليون وبرغشت ثم وراءها في الشمال أرض
    جليقية إلى زاوية القطعة‏.‏ وفيها على البحر المحيط في آخر الضلع الغربي
    بلد سنتياقو ومعناه يعقوب‏.‏ وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلية عند
    آخر الجزء في الجنوب وشرقاً عن قشتالة‏.‏ وفي شمالها وشرقها وشقة وينبلونة
    على سمتها شرقاً وشمالاً‏.‏ وفي غرب ينبلونة قشتالة ثم ناجزة فيما بينها
    وبين برغشت‏.‏ ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضلع الشمالي
    الشرقي منه وعلى قرب ويتصل به وبطرف البحر عند ينبلونة في جهة الشرق الذي
    ذكرنا من قبل أن يتصل في الجنوب بالبحر الرومي في الإقليم الرابع ويصير
    حجراً على بلاد الأندلس من جهة الشرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد
    غشكونية من أمم الفرنج‏.‏ فمنها من الإقليم الرابع برشلونة وأربونة على
    ساحل البحر الرومي وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشمال‏.‏ ومنها من الإقليم
    الخامس طلوشة شمالاً عن خريدة‏.‏ وأما المنكشف في هذا الجزء من جهة الشرق
    فقطعة على شكل مثلث مستطيل زاويته الحادة وراء البرنات شرقاً‏.‏ وفيها على
    البحر المحيط على رأس القطعة التي يتصل بها جبل البرنات بلد نيونة‏.‏ وفي
    آخر هذه القطعة في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء أرض بنطو من الفرنج
    إلى آخر الجزء‏.‏ وفي الجزء الثاني في الناحية الغربية منه أرض غشكونية وفي
    شمالها أرض بنطو وبرغشت وقد ذكرناهما‏.‏ وفي شرق بلاد غشكونية في شمالها
    قطعة أرض من البحر الرومي دخلت في هذا الجزء كالضرس مائلة إلى الشرق قليلاً
    وصارت بلاد غشكونية في غربها داخلة في جون من البحر‏.‏ وعلى رأس هذه
    القطعة شمالاً بلاد جنوة وعلى سمتها في الشمال جبل نيت جون‏.‏ وفي شماله
    وعلى سمته أرض برغونة‏.‏ وفي الشرق عن طرف جنوة الخارج من البحرالرومي طرف
    آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البر في البحر في غربيه نيس وفي
    شرقيه مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم‏.‏
    وفيها من المباني الضخمة والهياكل الهائلة والكنائس العادية ما هو معروف
    الأخبار‏.‏ ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب
    مفروشاً قاعه ببلاط النحاس وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين وهما
    مدفونان بها‏.‏ وفي الشمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء‏.‏
    وعلى هذا الطرف من البحر الذي في جنوبه رومة بلاد نابل في الجانب الشرقي
    منه متصلة ببلد قلورية من بلاد الفرنج‏.‏ وفي شمالها طرف من خليج البنادقة
    دخل في هذا الجزء من الجزء الثالث مغرباً ومحاذياً للشمال من هذا الجزء
    وانتهى إلى نحو الثلث منه وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من
    جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط‏.‏ وفي شماله بلاد أنكلاية في الإقليم
    السادس‏.‏ وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في غربيه بلاد قلورية بين خليج
    البنادقة والبحر الرومي يحيط بها من شرقيه يوصل من برها في الإقليم الرابع
    في البحر الرومي في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشمال إلى هذا
    الجزء‏.‏ وفي شرقي بلاد قلورية بلاد أنكيردة في جون بين خليج البنادقة
    والبحر الرومي ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرابع وفي
    البحر الرومي‏.‏ ويحيط به في شرقيه خليج البنادقة من البحر الرومي ذاهباً
    إلى سمت الشمال ثم ينعطف إلى الغرب محاذياً لآخر الجزء الشمالي‏.‏ ويخرج
    على سمته من الإقليم الرابع جبل عظيم يوازيه ويذهب معه في الشمال ثصم يغرب
    معه في الإقليم السادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليه في بلاد أنكلاية
    من أمم اللمانيين كما نذكر‏.‏ وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما
    داما ذاهبين إلى الشمال بلاد البنادقة فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد
    حروايا ثم بلاد الألمانيين عند طرف الخليج‏.‏ وفي الجزء الرابع من هذا
    الإقليم قطعة من البحر الرومي خرجت إليه من الإقليم الرابع مضرسة كلها بقطع
    من البحر‏.‏ ويخرج منها إلى الشمال وبين كل ضرسين منها طرف من البحر في
    الجون بينهما وفي آخر الجزء شرقاً قطع من البحر‏.‏ ويخرج منها إلى الشمال
    خليج القسطنطينية يخرج من هذا الطرف الجنوبي ويذهب على سمت الشمال إلى أن
    يدخل في الإقليم السادس وينعطف من هنالك عن قرب مشرقاً إلى بحر نيطش في
    الجزء الخامس وبعض الرابع قبله والسادس بعده من الإقليم السادس كما نذكر‏.‏
    وبلد القسطنطينية في شرقي هذا الخليج عند آخر الجزء من الشمال‏.‏ وهي
    المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة وبها من آثار البناء والضخامة ما
    كثرت عنه الأحاديث‏.‏ والقطعة التي ما بين البحر الرومي وخليج القسطنطينية
    من هذا الجزء وفيها بلاد مقدونية التي كانت لليونانيين ومنها ابتداء
    ملكهم‏.‏ وفي شرقي هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس وأظنها لهذا
    العهد مجالات للتركمان وبها ملك ابن غثمان وقاعدته بها بورصة وكانت من
    قبلهم للروم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتركمان‏.‏ وفي الجزء الخامس
    من هذا الإقليم من غربيه وجنوبه أرض باطوس وفي الشمال عنها إلى آخر الجزء
    بلاد عمورية وفي شرقي عمورية نهر قباقب الذي يمد الفرات يخرج من جبل هنالك
    ويذهب في الجنوب حتى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء الثاني إلى ممره
    في الإقليم الرابع‏.‏ وهنالك في غربيه آخر الجزء في مبدإ نهر سيحان ثم نهر
    جيحان غربيه الذاهبين على سمته وقد مر ذكرهما‏.‏ وفي شرقه هنالك مبدأ نهر
    الدجلة الذاهب على سمته وفي موازاته حتى يخالطه عند بغداد‏.‏ وفي الزاوية
    التي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر دجلة
    بلد ميافارقين‏.‏ ونهر قباقب الذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين‏:‏
    إحداهما غربية جنوبية وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء
    شمالاً ووراء الجبل الذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمورية كما قلناه والقطعة
    الثانية شرقية شمالية على الثلث في الجنوب منها مبدأ الدجلة والفرات وفي
    الشمال بلاد البيلقان متصلة بأرض عمورية من وراء جبل قباقب وهي عريضة وفي
    آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة‏.‏ وفي الزاوية الشرقية الشمالية قطعة من
    بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية‏.‏ وفي الجزء السادس من هذا الإقليم
    في جنوبه وغربه بلاد أرمييية متصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب
    الشرق‏.‏ وفيها بلد أردن في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل‏.‏ وفي
    شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة وفي جنوبها بانحراف إلى الشرق مدينة
    أرمينية‏.‏ ومن هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع‏.‏ وفيها هنالك
    بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى وقد مر ذكره في الجزء
    السادس منه‏.‏ ويتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء وفي الإقليم الرابع قبله
    من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان وآخرها في هذا الجزء شرقاً بلاد أردبيل
    على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع ويسمى
    بحر طبرستان‏.‏ وعليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم
    التركمان‏.‏ ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل
    بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس فتمر فيه منعطفة ومحيطة ببلد
    ميافارقين‏.‏ ويخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد ويتصل بجبل السلسلة في
    أسافل الشام ومن هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر‏.‏ وبين هذه الجبال
    الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين‏.‏ ففي جنوبيها
    بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان وعليه من هذه البلاد مدينة
    باب الأبواب‏.‏ وتتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد
    أرمينية‏.‏ وبينهما في الشرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة
    إلى بحر طبرستان‏.‏ وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة
    السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها‏.‏ وفي زاوية الجزء كله قطعة
    أيضاً من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية وقد مر ذكره‏.‏ ويحف بهذه
    القطعة من بحر نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة وتتصل بلاد
    السرير بين جبل الأبواب والجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى
    جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر‏.‏ وعند آخرها مدينة صول‏.‏ ووراء هذا الجبل
    الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا
    الجزء من بحر طبرستان وآخر الجزء شمالاً‏.‏ والجزء السابع من هذا الإقليم
    غربيه كله مغمور ببحر طبرستان وخرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي
    ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان وجبال الديلم إلى قزوبن‏.‏ وفي غربي
    تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الإقليم الرابع‏.‏
    ويتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقيه أيضاً‏.‏ وينكشف
    من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في هذا
    البحر‏.‏ ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشرق قطعة منكشفة من البحر هي
    مجالات للغز من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن
    ويذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر
    طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس ثم ينعطف مع طرفه
    ويفارقه ويسمى هنالك جبل سياه ويذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم
    السادس ثم يرجع جنوباً إلى الجزء الساس من الإقليم الخامس‏.‏ وهذا الطرف
    منه هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السرير وأرض الخزر‏.‏ واتصلت بأرض
    الخزر في الجزء السادس والسابع حافات هذا الجبل المسمى جبل سياه كما
    سيأتي‏.‏ والجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم
    الترك وفي الجهة الجنوبية الغربية منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر
    جيحون دورها ثلاثمائة ميل ويصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات‏.‏
    وفي الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل وماؤها
    حلو‏.‏ وفي الناحية الشمالية من هذا لجزء جبل مرغار ومعناه جبل الثلج لأنه
    لا يذوب فيه وهو متصل بآخر الجزء‏.‏ وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من
    الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون وبه سميت البحيرة‏.‏ وينجلب منه ومن
    جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد
    أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز وشرق بلاد الكيماكية‏.‏ ويحف به من جهة
    الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج يعترض هنالك من الجنوب
    إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر وقد كان دخل إليه من آخر
    الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله واحتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر
    الجزء في الشمال ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما
    دون نصفه وأحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء العاشر
    من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرباً إلى آخره وبقيت في جنوبيه من هذا الجزء
    قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء التاسع في
    شرقيه وفي الأعلى منه وانعطف قريباً إلى الشمال وذهب على سمته إلى الجزء
    التاسع من الإقليم السادس‏.‏ وفيه السد هنالك كما نذكره‏.‏ وبقيت منه
    القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء
    مستطيلة إلى الجنوب وهي من بلاد يأجوج ومأجوج‏.‏ وفي الجزء العاشرمن هذ
    الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متصلة فيه كله إلا قطعة من البحر المحيط غمرت
    طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله وإلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب
    والغرب جبل قوقيا حين مر فيه وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج‏.‏ والله
    سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ فالجزء الأول منه غمر البحر أكثر من نصفه واستدار
    شرقاً مع الناحية الشمالية ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب وانتهى
    قريباً من الناحية الجنوبية فانكشفت قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة
    بين الطرفين وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه
    وينفسح طولاً وعرضاً وهي كلها أرض بريطانية‏.‏ وفي بابها بين الطرفين وفي
    الزاوبة الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلة ببلاد بنطو التي مر
    ذكرها في الجزء الأول والثاني من الإقليم الخامس‏.‏ والجزء الثاني من هذا
    الإقليم دخل البحر المحيط من غربه وشماله فمن غربه قطعة مستطيلة أكبر من
    نصفه الشمالي من شرق أرض بريطانية في الجزء الأول واتصلت بها القطعة الأخرى
    في الشمال من غربه إلى شرقه وانفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء وفيه
    هنالك قطعة من جزيرة إنكلترة وهي جزيرة عظيمة متسعة مشتملة على مدن وبها
    ملك ضخم وبقيتها في الإقليم السابع‏.‏ وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في
    النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية وبلاد أفلادش متصلين بها ثم بلاد
    إفرنسية جنوباً وغرباً من هذا الجزء وبلاد برغونية شرقاً عنها وكلها لأمم
    الأفرنجة وبلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء‏.‏ فجنوبه بلاد أنكلاية
    ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة وشطونية‏.‏ وعلى قطعة البحر المحيط
    في الزاوية وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد
    مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشمال‏.‏ وفي الناحية الشرقية بلاد
    أنكوية في الجنوب وبلاد بلونية في الشمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من
    الجزء الرابع ويمر مغرباً بانحراف إلى الشمال أن يقف في بلاد شطونية آخر
    النصف الغربي‏.‏ وفي الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية‏.‏ وتحتها في
    الشمال بلاد الروسية‏.‏ وفصل جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى أن يقف في
    النصف الشرقي‏.‏ وفي شرق أرض جثولية بلاد جرمانية وفى الزاوية الجنوبية‏.‏
    الشرقية أرض القسطنطينية ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي
    وعند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية
    من هذا الجزء ويمدها الخليج وبينهما في الزاوبة بلد مسيناه‏.‏ وفي الجزء
    الخامس من الإقليم السادس ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من
    الخليج في آخرالجزء الرابع ويخرج على سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله
    وفي بعض السادس طى طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدئه في عرض ستمائة ميل‏.‏
    ويبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها
    بر مستطيل في غربة هرقلية على ساحل بحر نيطش على متصلة بأرض البيلقان من
    الإقليم الخامس‏.‏ وفي شرقه بلاد اللانية وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش‏.‏
    وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان وشرقاً بلاد الروسية وكلها
    على ساحل هذا البحر‏.‏ وبلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا
    الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع ومن غربها في الجزء
    الرابع من هذا الإقليم‏.‏ وفي الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش وينحرف
    قليلاً إلى الشمال ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية وفي
    جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت
    آخر جنوبه في الجزء الخامس‏.‏ وفي الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر‏.‏
    وفي شرقها أرض برطاس وفي الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار‏.‏ وفي
    الزاوية الشرقية الجنولية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياه كوه
    المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده ويذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز
    في هذه القطعة ويدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس فيتصل هنالك بجبل
    الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا
    الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازه جبل سياه بعد مفارقته بحر طبرستان‏.‏
    وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً‏.‏ وفي شرقها القطعة من بحر
    طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها‏.‏ ووراء جبل سياه في
    الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس‏.‏ وفي الناجية الشرقية من الجزء أرض
    شحرب وفي الجزء الثامن والناحية الجنوبية منه كلها أرض الجولخ من الترك في
    الناحية الشمالية غرباً والأرض المنتنة وشرق الأرض التي يقال إن يأجوج
    ومأجوج خرباها قبل بناء السد‏.‏ وفي هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من
    أعظم أنهار العالم وممره في بلاد الترك ومصبه في بحر طبرستان في الإقليم
    الخامس في الجزء السابع منه‏.‏ وهو كثير الإنعطاف يخرج من جبل في الأرض
    المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمر على سمت الغرب إلى آخر
    السابع من هذا الإقليم فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع
    فيمر في طرفه بين الجنوب والمغرب فيخرج في الجزء السادس من السابع ويذهب
    مغرباً غير بعيد ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب ويرجع إلى الجزء السادس من
    الإقليم السادس ويخرج منه جدول يذهب مغرباً ويصب في بحر نيطش في ذلك الجزء
    ويمر هو في قطعة بين الشمال والشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من
    الإقليم السادس ثم ينعطف ثالثة إلى الجنوب وينفذ في جبل سياه ويمر في بلاد
    الخزر ويخرخ إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه فيصب هنالك في بحر
    طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية‏.‏
    وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ من الترك
    وهم قفجاق وبلاد الشركس منهم أيضاً‏.‏ وفي الشرق منه بلاد يأجوج يفصل
    بينهما جبل قوقيا المحيط وقد مر ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم
    الرابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال ويفارقه مغرباً وبانحراف إلى
    الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأول
    حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى
    المغرب وفي وسطه ههنا السد الذي بناه الأسكندر ثم يخرج على سمته إلى
    الإقليم السابع وفي الجزء التاسع منه فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى
    البحر المحيط في شماله ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع
    إلى الجزء الخامس منه فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه‏.‏ وفي
    وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الأسكندر كما قلناه‏.‏ والصحيح من
    خبره في القرآن وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أن
    الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً وبعث سلاماً الترجمان
    فوقف عليه وجاء بخبره ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا‏.‏
    وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجرج متصلة فيه إلى آخره على قطعة
    من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشمال
    وعريضة بعض الشيء في الشرق‏.‏ الإقليم السابع والبحر المحيط قد غمر عامته
    من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج
    ومأجوج‏.‏ فالجزء الأول والثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرة
    إنكلترة التي معظمها في الثاني وفي الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى
    الشمال وبقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثاني من الإقليم
    السادس وهي مذكورة هناك‏.‏ والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثني
    عشر ميلاً‏.‏ ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة
    مستطيلة من الغرب إلى الشرق‏.‏ والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره
    بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتسع في شرقها وفيها هنالك متصل أرض
    فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس وأنها في شماله وفي
    القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء‏.‏ ثم في الجانب الغربي منها مستديرة
    فسيحة وتتصل بالبر من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونية‏.‏ وفي شمالها
    جزيرة بوقاعة مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق‏.‏ والجزء الرابع من
    هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر المحيط من المغرب إلى المشرق وجنوبه
    منكشف وفي غربه أرض قيمازك من الترك وفي شرقها بلاد طست ثم أرض رسلاندة إلى
    آخر الجزء شرقاً وهي دائمة الثلوج وعمرانها قليل - ويتصل ببلاد الروسية في
    الإقليم السادس وفي الجزء الرابع والخامس منه‏.‏ وفي الجزء الخامس من هذا
    الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية وينتهي في الشمال إلى قطعة من
    البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل‏.‏ وفي الناحية
    الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من
    الإقليم السادس وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء وهي عذبة تنجلب إليها
    أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشمال‏.‏ وفي شمال الناحية الشرقية من
    هذا الجزء أرض التتارية من التركمان إلى آخره‏.‏ وفي الجزء السادس من
    الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية وفي وسط الناحية بحيرة عثور
    عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية وهي جامدة دائماً
    لشدة البرد إلا قليلاً في زمن الصيف‏.‏ وفي شرق بلاد القمانية بلاد
    الروسية‏.‏ التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية
    من الجزء الخامس منه وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض
    بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس‏.‏ وفي الناحية الشرقية الشمالية
    من الجزء السادس منه وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة
    الأولى إلى الجنوب كما مر‏.‏ وفي آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا
    متصلاً من غربه إلى شرقه‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية
    أرض يخناك من أمم الترك‏.‏ وكان مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من
    الجزء السادس قبله وفي الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء‏.‏ ويخرج إلى
    الإقليم السادس من فوقه‏.‏ وفي الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية
    الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً‏.‏ وفي آخر الجزء من جهة الشمال جبل
    قوقيا المحيط متصلاً من غربه إلى شرقه‏.‏ وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم
    في الجنوبية الغربية منه متصل الأرض المنتنة‏.‏ وفي شرقها الأرض المحفورة
    وهي من العجائب‏:‏ خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع
    الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار والنيران في الليل
    تضيء وتخفى‏.‏ وربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال‏.‏ وفي
    الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد‏.‏ وفي آخر
    الشمال منه جبل قوقيا متصلاً من الشرق إلى الغرب‏.‏ وفي الجزء التاسع من
    هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا
    حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى
    الشرق فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس ويمر معترضاً فيه‏.‏ وفي
    وسطه هنالك سد يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه‏.‏ وفي الناحية الشرقية من هذا
    الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من
    شرقه وشماله‏.‏ والجزء العاشر غمر البحر جميعه‏.‏ هذا آخر الكلام على
    الجغرافيا وأقاليمها السبعة ‏"‏ وَمِنْ
    آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ
    وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
    ‏"‏‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdl

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdl



    [/b]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:13 pm

    وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏.‏
    وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم
    في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب‏:‏ مثل ما يذكره
    الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون
    فيه إلى الحاكم والوازع ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب اثبات اللغات
    أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وتبيان
    العبارات أخف ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في
    أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع وأن القتل أيضاً مفسد للنوع وأن الظلم
    مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية
    في الأحكام فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران فكان لها النظر فيما
    يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة‏.‏ وكذلك أيضاً
    يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة لكنهم لم
    يستوفوه‏.‏ فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها
    المسعودي‏:‏ ‏"‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله
    بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك
    إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلاأ بالمال ولا سبيل إلى المال إلاأ بالعمارة
    ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه
    الرب وجعل له قيما وهو الملك ‏"‏‏.‏ ومن كلام أنو شروان في هذا المعنى
    بعينه‏:‏ ‏"‏ الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة
    والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمال وإصلاح العمال باستقامة الوزراء ة
    ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها‏.‏ يملكها
    ولاتملكه ‏"‏‏.‏ وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة المتداول بين الناس
    جزء صالح منه إلا أنه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره وقد
    أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان
    وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها وهو قوله‏:‏ ‏"‏ العالم
    بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تحيا به السنة السنة سياسة يسوسها الملك
    الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرعية
    الرعية عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه العالم العالم بستان‏.‏ ‏.‏ ‏.‏
    ‏"‏ ثم ترجع إلى أول الكلام‏.‏ فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها
    ببعض وارتدت أعجازها على صدورها واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره
    عليها وعظم من فوائدها‏.‏ وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك
    وأعطيته حقه من التصفح والتفهم عثرت في أثنائه على تفسير الكلمات وتفصيل
    إجمالها مستوفى بيناً بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من
    غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان‏.‏ وكذلك تجد في كلام ابن المقفع وما
    يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة
    كما برهناه إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة
    الكلام‏.‏ وكذلك حوم الماضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك وبوبه
    على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا
    أصاب الشاكلة ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلة إنما يبوب الباب للمسألة
    ثم يستكثر من الأحاد والآثار وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر
    والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة
    ولا يكشف عن التحقيق قناعاً يرفع بالبراهين الطبيعية حجاباً إنما هو نقل
    وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقق قصده ولا
    استوفى مسائله‏.‏ ونحن ألهمنا الله إلى ذلك الهاماً وأعثرنا على علم جعلنا
    سن بكره وجهينة خبره‏.‏ فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع
    أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية‏.‏ وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت
    بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت
    له الطريق‏.‏ والله يهدي بنوره من يشاء‏.‏ ونحن الأن نبين في هذا الكتاب ما
    يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم
    والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع
    بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول‏:‏ لما كان الإنسان متميزاً عن سائر
    الحيوانات بخواص اختص بها‏.‏ فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر
    الني تميز به عن الحيوانات وشرف بوصفه على المخلوقات‏.‏ ومنها الحاجة إلى
    الحكم الوازع والسلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات
    كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي
    لا بفكر وروية‏.‏ ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه
    واكتساب أسبابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه
    وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
    ‏"‏‏.‏ ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير
    واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه‏.‏ ومن
    هذا العمران ما يكون بدوياً وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل
    المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضرياً وهو الذي بالأمصار
    والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها‏.‏ وله في كل هذه
    الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضاً ذاتياً له فلا جرم انحصر الكلام
    في هذا الكتاب في ستة فصول‏:‏ الأول‏:‏ في العمران البشري على الجملة
    وأصنافه وقسطه من الأرض‏.‏ والثاني‏:‏ في العمران البدوي وذكر القبائل
    والأمم الوحشية‏.‏ والثالث‏:‏ في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب
    السلطانية‏.‏ والرابع‏:‏ في العمران الحضري والبلدان والأمصار‏.‏
    والخامس‏:‏ في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه‏.‏ والسادس‏:‏ في العلوم
    واكتسابها وتعلمها‏.‏ وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما
    نبين لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار وأما تقديم المعاش فلأن
    المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمالي
    وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبين لك
    بعد‏.‏ والله الموفق للصواب والمعين عليه‏.‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة
    وفيه مقدمات
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up المقدمة الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري
    ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم‏:‏ ‏"‏ الإنسان مدني بالطبع ‏"‏ أي لا بد له
    من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران‏.‏ وبيانه أن
    الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء
    وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله‏.‏ إلا أن
    قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له
    بمادة حياته منه‏.‏ ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة
    مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ‏.‏ وكل واحد من هذه
    الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد
    ونجار وفاخوري‏.‏ هب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في
    تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة والحصاد والدراس الذي
    يخرج الحب من غلاف السنبل‏.‏ ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع
    كثيرة أكثر من الأولى بكثير‏.‏ ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة
    الواحد‏.‏ فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له
    ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف‏.‏ وكذلك
    يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه‏.‏
    لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل
    حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس
    مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد
    والفيل أضعاف من قدرته‏.‏ ولما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل
    واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره‏.‏ وجعل للإنسان
    عوضاً من ذلك كله الفكر واليد‏.‏ فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع
    تحصل له الألات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات
    للدفاع‏:‏ مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة والسيوف النائبة عن
    المخالب الجارحة والتراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك مما ذكر
    جالينوس في كتاب منافع الأعضاء‏.‏ فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة
    واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة
    ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الألات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة
    الصنائع والمواعين المعدة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء
    جنسه‏.‏ وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل قوت ولا غذاء ولا تتم حياته لما
    ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضاً
    دفاع عن نفسسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى
    حياته ويبطل نوع البشر‏.‏ وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح
    للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه‏.‏ فإذن هذا الاجتماع ضروري
    للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم
    واستخلافه إياهم وهذا هو معنى العمران الذي جعلناة موضوعاً لهذا العلم‏.‏
    وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له‏.‏ وهذا وإن لم
    يكن واجباً على صاحب الفن لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب
    علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضاً من الممنوعات عندهم فيكون
    إثباته من التبرعات والله الموفق بفضله‏.‏ ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل
    للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض
    لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم‏.‏ وليست آلة السلاح التي جعلت
    دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدو عنهم لأنها موجودة
    لجميعهم‏.‏ فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم
    لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم والهاماتهم‏.‏ فيكون ذلك الوازع واحداً
    منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره
    بعدوان وهذا هو معنى الملك‏.‏ وقد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية
    ولا بد لهم منها‏.‏ وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء
    كما في النحل والجراد لما استقرىء فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس
    من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان
    بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة‏:‏ ‏"‏ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
    ‏"‏‏.‏ وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل
    العقلي وأنها خاصة طبيعية للإنسان فيقررون هذا البرهان إلى غايته وأنه لا
    بد للبشر من الوازع ثم يقولون بعد ذلك‏.‏ وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من
    عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع
    الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه حتى يتم الحكم فيهم
    وعليهم من غير إنكار ولا تزييف‏.‏ وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما
    تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو
    بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته‏.‏ فأهل الكتاب
    والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم
    أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة وكذلك
    هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب‏.‏ بخلاف حياة
    البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع‏.‏ وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب
    النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة‏.‏
    والله ولي التوفيق والهداية‏.‏ المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض
    والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم اعلم أنه قد تبين في
    كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة
    بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه‏.‏ فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما
    أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة
    على سائرها‏.‏ وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض وليس بصحيح وإنما
    التحت الطبيعي قلب الأرض ووسط كرتها الذي هو مركزها والكل يطلبه بما فيه من
    الثقل وما عدا ذلك من جوانبها‏.‏ وأما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض‏.‏
    وإن قيل في شيء منها أنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه‏.‏ وأما
    الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط
    العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحراً يسم البحر المحيط ويسمى أيضاً
    لبلاية بتفخيم اللام الثانية ويسمى أوقيانوس أسماء أعجمية ويقال له البحر
    الأخضر والأسود‏.‏ ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء
    أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال وإنما
    المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة
    الجنوب إلى خط الاستواء ومن جهة الشمال‏.‏ إلى خط كروي ووراءه الجبال
    الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج ومأجوج‏.‏ وهذه
    الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء
    أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة‏.‏ وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار
    النصف من الكرة أو أقل والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم
    السبعة‏.‏ وخط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق وهو طول
    الأرض وأكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر
    خط في الفلك‏.‏ ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستين درجة والدرجة من
    مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخاً والفرسخ اثنا عشر آلف ذراع في ثلاثة أميال
    لأن الميل أربعة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست حبات
    شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن‏.‏ وبين دائرة معدل النهار التي
    تقسم الفلك بنصفين وتسامت خط الاستواء من الأرض وبين كل واحد من القطبين
    تسعون درجة‏.‏ لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع وستون
    درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود كما كانت الجهة
    الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم أن
    المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وما فيه من الأمصار والمدن والجبال
    والبحار والأنهار والقفار والرمال مثل‏:‏ بطليموس في كتاب الجغرافيا وصاحب
    كتاب روجار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة
    بحدود وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول
    فالأقليم الأول أطول مما بعده وكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما
    اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة الأرض‏.‏ وكل واحد من
    هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي‏.‏
    وفي كل جزء


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه
    البحار‏:‏ وذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج منه من جهة المغرب في الإقليم
    الرابع البحر الرومي المعروف‏.‏ ويبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشر
    ميلاً أو نحوها ما بين طنجة وطريف ويسمى الزقاق ثم يذهب مشرقاً وينفسح إلى
    عرض ستمائة ميل‏.‏ ونهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف
    فرسخ ومائة وستين فرسخاً من مبدئه وعليه هنالك سواحل الشام‏.‏ وعليه من جهة
    الجنوب سواحل المغرب أولها طنجة عند الخليج ثم إفريقية ثم برقة إلى
    الإسكندرية‏.‏ ومن جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج ثم البنادقة ثم
    رومة ثم الإفرنجة ثم الأندلس إلى طريف عند الزقاق قبالة طنجة‏.‏ ويسمى هذا
    البحر الرومي والشامي وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية
    وميورقة وسردانية ودانية‏.‏ قالوا‏:‏ ويخرج منه في جهة الشمال بحران آخران
    من خليجين‏.‏ أحدهما مسامت للقسطنطينية يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض
    رمية السهم ويمر ثلاثة بحار‏:‏ فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة
    أميال ويمر في جريه ستين ميلاً ويسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة
    عرضها ستة أميال فيمد بحر نيطش وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية
    الشرق فيمر بأرض هريقلية وينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف وثلاثمائة ميل من
    فوهته وعليه من الجانبين أمم من الروم والترك وبرجان والروس‏.‏ والبحر
    الثاني من خليجي هذا البحر الرومي وهو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على
    سمت الشمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد
    البنادقة وينتهي الي بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدئه‏.‏ وعلى
    حافتيه من البنادقة والروم وغيرهم أمم ويسمى خليج البنادقة‏.‏ قالوا‏:‏
    وينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشمال
    من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر إلى الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم
    الأول ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد
    الحبشة والزنج وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ
    من مبدئه ويسمى البحر الصيني والهندي والحبشي‏.‏ وعليه من جهة الجنوب بلاد
    الزنج وبلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره وليسوا من البربر الذين
    هم قبائل المغرب ثم بلد مقدشو ثم بلد سفالة وأرض الواق واق وأمم أخر ليس
    بعدهم إلا القفار والخلاء‏.‏ وعليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم
    الهند ثم السند ثم سواحل اليمن من الأحقاف وزبيد وغيرها ثم بلاد الزنج عند
    نهايته وبعدهم الحبشة‏.‏ قالوا‏:‏ ويخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران
    أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقاً ثم يمر مستبحراً إلى
    ناحية الشمال ومغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى مدينة القلزم في الجزء
    الخامس من الإقليم الثاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه ويسمى بحر القلزم
    وبحر السويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل‏.‏ وعليه من جهة
    الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز وجدة ثم مدين وأيلة وفاران عند نهايته ومن جهة
    الغرب سواحل الصعيد وعيذاب وسواكن وزيلع ثم بلاد الحبشة عند مبدئه وأخره
    عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش وبينهما نحو ست مراحل‏.‏ وما زال
    الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتم ذلك‏.‏ والبحر
    الثاني من هذا البحر الحبشي ويسمى الخليج الأخضر يخرج ما بين بلاد السند
    والأحقاف من اليمن ويمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى
    الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة
    فرسخ وأربعين فرسخاً من مبدئه ويسمى بحر فارس‏.‏ وعليه من جهة الشرق سواحل
    السند ومكران وكرمان وفارس والأبلة عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل البحرين
    واليمامة وعمان والشحر والأحقاف عند مبدئه‏.‏ وفيما بين بحر فارس والقلزم
    جزيرة العرب كأنها داخلة من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب
    وبحر القلزم من الغرب وبحر فارس من الشرق وتفضي إلى العراق فيما بين الشام
    والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما‏.‏ وهنالك الكوفة والقادسية وبغداد
    وإيوان كسرى والحيرة‏.‏ ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم‏.‏
    وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها وبلاد اليمامة والبحرين
    وعمان جهة الشرق منها وبلاد اليمن في قالوا‏:‏ وفي هذا المعمور بحر أخر
    منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان وطبرستان
    طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربيه أذربيجان والديلم وفي شرقيه أرض
    الترك وخوارزم وفي جنوبيه طبرستان وفي شماليه أرض الخزر واللان‏.‏ هذه جملة
    البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا‏.‏ الأنهار قالوا‏:‏ وفي هذا
    الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة
    ونهر بلخ المسمى جيحون‏.‏ فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء
    بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا
    يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك
    وبعضها في أخرى ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند
    خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل‏.‏ ويخرج من هذه البحيرة نهران‏.‏ يذهب
    أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر فإذا
    جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر
    الرومي عند الإسكندرية ويسمى نيل مصر وعليه الصعيد من شرقيه والواحات من
    غربيه‏.‏ ويذهب الأخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمرعلى سمته إلى أن يصب في
    البحر المحيط وهو نهر السودان وأمهم كلهم على ضفتيه‏.‏ وأما الفرات فمبدؤه
    من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس ويمر جنوباً في أرض
    الروم وملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة ثم بالكوفة إلى أن ينتهي إلى
    البطحاء التي بين البصرة وواسط ومن هناك يصب في البحر الحبشي وتنجلب إليه
    في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة‏.‏ وأما دجلة
    فمبدؤه عين ببلاد خلاط من أرمينية أيضاً وتمر على سمت الجنوب بالموصل
    وأذربيجان وبغداد إلى واسط فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة
    وتفضي إلى بحر فارس وهو في الشرق على يمين الفرات‏.‏ وينجلب إليه أنهار
    كثيرة عظيمة من كل جانب‏.‏ وفيما بين الفرات ودجلة من أوله جزيرة الموصل
    قبالة الشام من عدوتي الفرات وقبالة أذربيجان من عدوة دجلة‏.‏ وأما نهر
    جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة
    وتنجلب إليه أنهار عظام ويذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان ثم
    يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس فيصب في
    بحيرة الجرجانية التي بأسفل مدينتها وهي مسيرة شهر في مثله وإليها ينصب نهر
    فرغانة والشاش الأتي من بلاد الترك‏.‏ وعلى غربي نهر جيحون بلاد خراسان
    وخوارزم وعلى شرقيه بلاد بخارى وترمذ وسمرقند ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد
    الترك وفرغانة والخزرجية وأمم الأعاجم‏.‏ وقد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه
    والشريف في كتاب ‏"‏ روجار ‏"‏ وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من
    الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله ولأن
    عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر وبالأوطان التي
    للعرب من المشرق واللة الموفق‏.‏

    تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمراناً من
    الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة
    أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة أقل عمراناً مما بعدهما وما وجد من
    عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرماد والبحر الهندي الذي في الشرق
    منهما‏.‏ وأمم هذين الإقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره
    ومدنه كذلك‏.‏ والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك‏.‏ فالقفار فيها قليلة
    والرمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة وأمصارها
    ومدنها تجاوز الحد عدداً والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس
    والجنوب خلاء كله‏.‏ وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحروقلة ميل
    الشمس فيها عن سمت الرؤوس‏.‏ فلنوضح ذلك ببرهانه ليتبين منه سبب كثرة
    العمارة فيما بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع
    فنقول‏:‏ إن قطبي الفلك الجنوبي والشمالي إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة
    عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب
    وتسمى دائرة معدل النهار‏.‏ وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى
    متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك التي في جوفه
    قهراً وهذه الحركة محسوسة‏.‏ وكذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة
    مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة
    الكواكب في السرعة والبطء‏.‏ وممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها
    دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهي دائرة فلك البروج منقسمة
    باثني عشر برجاً وهي على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على
    نقطتين متقابلتين من البروج هما أول الحمل وأول الميزان فتقسمها دائرة معدل
    النهار بنصفين‏:‏ نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال وهو من أول الحمل
    إلى أخر السنبلة ويصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أول الميزان إلى آخر
    الحوت‏.‏ وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح
    الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار يمر من المغرب إلى المشرق ويسمى خط
    الاستواء‏.‏ ووقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدأ الإقليم الأول من
    الأقاليم السبعة والعمران كله في الجهة الشمالية عنه‏.‏ والقطب الشمالي
    يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستين
    درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السابع‏.‏ وإذا ارتفع على الأفق
    تسعين درجة وهي التي يين القطب ودائرة معدل النهار صار القطب على سمت
    الرؤوس وصارت دائرة معدل النهار على الأفق وبقيت ستة من البروج فوق الأفق
    وهي الشمالية وستة تحت الأفق وهي الجنوبية‏.‏ والعمارة فيما بين الأربعة
    والستين إلى التسعين ممتنعة لأن الحر والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد
    الزمان بينهما فلا يحصل التكوين‏.‏ فإذا الشمس تسامت الرؤوس على خط
    الاستواء في رأس الحمل والميزان ثم تميل عن المسامتة إلى رأس السرطان ورأس
    الجدي ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعاً وعشرين درجة‏.‏ ثم
    إذا ارتفع القطب الشمالي عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس
    بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبي كذلك بمقدار متساو في الثلاثة وهو
    المسمى عند أهل المواقيت عرض البلد‏.‏ وإذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت
    الرؤوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان
    وانخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى
    الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه‏.‏ فلا يزال الأفق الشمالي يرتفع حتى
    يصير أبعد الشمالية وهو رأس السرطان في سمت الرؤوس وذلك حيث يكون عرض البلد
    أربعاً وعشرين في الحجاز وما يليه‏.‏ وهذا هو الميل الذي إذا مال رأس
    السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالي حتى
    صار مسامتاً‏.‏ فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشمس عن
    المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً وستين ويكون
    انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبي عن الأفق مثلها
    فينقطع التكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحر‏.‏ ثم إن
    الشمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعة على الأرض على زوايا قائمة
    وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادة‏.‏ وإذا كانت زوايا الأشعة
    قائمة عظم الضوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادة‏.‏ فلهذا يكون الحر عند
    المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعده لأن الضوء سبب الحر
    والتسخين‏.‏ ثم إن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي
    الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد‏.‏ ولا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها
    عند رأس السرطان والجدي إلا أن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعة القائمة
    الزوايا تلح على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة وئفرط
    في شدتها‏.‏ وكذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض
    أربع وعشرين فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط
    الاستواء وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً ويبساً يمنع من التكوين لأنه
    إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبات وفسد التكوين في المعدن والحيوان
    والنبات إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة‏.‏ ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت
    الرؤوس في عرض خمس وعشرين فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى
    الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً فيكون التكوين ويتزايد على التدريج إلى
    أن يفرط البرد في شدته لقلة الضو وكون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص
    التكوين ويفسد‏.‏ إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة
    البرد لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد‏.‏ فلذلك
    كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً وفي الثالث والرابع والخامس
    متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء وفي السادس والسابع كثيراً لنقصان الحر
    وإن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر إذ لا
    تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع‏.‏
    فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله ومن هنا أخذ الحكماء
    خلاء خط الإستواء وما وراءه‏.‏ وأورد عليهم أنه معمور بالمشاهدة والأخبار
    المتواترة‏.‏ فكيف يتم البرهان على ذلك والظاهر أنهم لم يريدوا امتناع
    العمران فيه بالكلية إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قوي
    بإفراط الحر والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي‏.‏ وهو كذلك فإن خط
    الاستواء والذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جداً‏.‏ وقد زعم
    ابن رشد أن خط الأستواء معتدل وأن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في
    الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا‏.‏ والذي قاله غير ممتنع من جهة فساد
    التكوين وإنما امتنع فيما وراء خط الإستواء في الجنوب من جهة أن العنصر
    المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية
    قابلاً للتكوين ولما امتنع المعتدل لغلبة الماء تبعه ما سواه لأن العمران
    متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع‏.‏ وأما القول
    بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر والله أعلم‏.‏ ولنرسم بعد
    هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل
    الكلام عليها‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏ تفصيل الكلام على بدء الجغرافيا اعلم أن
    الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى
    الجنوب يسمون كل قسم منها إقليماً‏.‏ فانقسم المعمور من الأرض كله على هذه
    السبعة الأقاليم كل واحد منها أخذ من الغرب إلى الشرق على طوله‏.‏ فالأول
    منها مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب وليس
    وراءه هنالك إلا القفار والرمال وبعض عمارة إن صحت فهي كلا عمارة‏.‏ ويليه
    من جهة شماليه الإقليم الثاني ثم الثالث كذلك ثم الرابع والخامس والسادس
    والسابع وهو آخر العمران من جهة الشمال‏.‏ وليس وراء السابع إلا الخلاء
    والقفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحال فيما وراء الإقليم الأوال في
    جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمال أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة
    الجنوب‏.‏ ثم أن أزمنة الليل والنهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل
    الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالي عن أفاقها‏.‏ فيتفاوت
    قوس النهار والليل لذلك‏.‏ وينتهي طول الليل والنهار في آخر الإقليم الأول
    وذلك عند حلول الشمس برأس الجدي لليل وبرأس السرطان للنهار كل واحد منهما
    إلى ثلاث عشرة ساعة‏.‏ وكذلك في آخر الإقليم الثاني مما يلي الشمال فينتهي
    طول النهار فيه عند حلول الشمس برأس السرطان وهو منقلبها الصيفي إلى ثلاث
    عشرة ساعة ونصف ساعة‏.‏ ومثله أطول الليل عند منقلبها الشتوي برأس الجدي‏.‏
    ويبقى للأقصر من الليل والنهار ما يبقى بعد الثلاث عشرة ونصف من جملة أربع
    وعشرين الساعات الزمانية لمجموع الليل والنهار وهي دورة الفلك الكاملة‏.‏
    وكذلك في آخر الإقليم الثالث مما يلي الشمال أيضاً ينتهيان إلى أربع عشرة
    ساعة وفي آخر الرابع إلى أربع عشرة ساعة ونصف ساعة وفي آخر الخامس إلى خمس
    عشر ساعة وفي آخر السادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف وفي آخر السابع إلى ست
    عشرة ساعة وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من
    ليلها ونهارها بنصف ساعة لكل إقليم يتزايد من أوله في ناحية الجنوب إلى
    آخره في ناحية الشمال موزعة على أجزاء هذا البعد‏.‏ وأما عرض البلدان في
    هذه الأقاليم فهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدل النهار
    الذي هو سمت رأس خط الاستواء وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبي عن أفق ذلك
    البلد‏.‏ يرتفع القطب الشمالي عنه وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمى عرض البلد
    كما مر ذلك قبل‏.‏ والمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه
    الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ويذكرون
    ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار
    والمسافات بينها في المسالك ونحن الأن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير
    البلدان والأنهار والبحار في كل جزء منها ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب ‏"‏
    نزهة المشتاق ‏"‏ الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج
    وهو روجار بن روجار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة
    مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة‏.‏ وجمع له كتباً جمة
    للمسعودي وابن خرداذبه والحوقلي والدمري وابن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم
    ونبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنه
    وفضله‏.‏ الإقليم الأول وفيه من جهة غربيه الجزائر الخالدات التي منها بدأ
    بطليموس يأخذ أطوال البلاد‏.‏ وليست في بسيط الإقليم وإنما هي في البحر
    المحيط جزر متكثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة ويقال إنها معمورة‏.‏ وقد بلغنا أن
    سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا
    وباعوا بعض أساراهم بسواحل المغرب الأقصى وصاروا إلى خدمة السلطان‏.‏ فلما
    تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم وإنهم يحتفرون الأرض للزراعة
    بالقرون وأن الحديد مفقود بأرضهم وعيشهم من الشعير وماشيتهم المعز وقتالهم
    بالحجارة يرمونها إلى خلف وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت ولا يعرفون ديناً
    ولم تبلغهم دعوة‏.‏ ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد
    إليها لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح ومعرفة جهات مهابها وإلى أين
    يوصل إذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب‏.‏ وإذا
    اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل
    السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتية والملاحين الذين هم
    رؤساء السفن في البحر‏.‏ والبلاد التي في حافات البحر الرومي وفي غدوته
    مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل
    البحرعلى ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك
    الصحيفة ويسمونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم‏.‏ وهذا كله مفقود في
    البحر المحيط‏.‏ فلذلك لا تلج فيه السفن لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل
    أن تهتدي إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من
    الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشمس
    المنعكسة من سطح الأرض فتحللها‏.‏ فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف
    على خبرها‏.‏ وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من
    مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه ويسمى نيل السودان‏.‏ ويذهب إلى البحر
    المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك‏.‏ وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة
    وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان‏.‏ وإلى بلادهم تسافر
    تجار المغرب الأقصى وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف
    الملثمين ومفاوز يجولون فيها‏.‏ وفي جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال
    لهم لملم وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم وأهل غانة والتكرور يغيرون
    عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب وكلهم عامة رقيقهم
    وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من
    الناطق يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة وربما يأكل
    بعضهم بعضاً وليسوا في عداد البشر‏.‏ وفواكه بلاد السودان كلها من قصور
    صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان‏.‏ فكان في غانة فيما يقال ملك
    ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح‏.‏ وقال صاحب كتاب روجار أنه صالح
    بن عبد الله بن حسن بن الحسن ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن‏.‏
    وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي‏.‏ وفي شرقي هذا
    البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد كوكو على نهر ينبع من بعض الجبال
    هنالك‏.‏ ويمر مغرباً فيغوص في رمال الجزء الثاني‏.‏ وكان ملك كوكو قائماً
    بنفسه ثم استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته وخربت لهذا العهد من
    أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر‏.‏
    وفي جنوبي بلد كوكو بلاد كانم من أمم السودان‏.‏ وبعدهم ونغارة على ضفة
    النيل من شماليه‏.‏ وفي شرقي بلاد ونغارة وكانم بلاد زغاوة وتاجرة المتصلة
    بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم‏.‏ وفيه يفر نيل مصرذاهباً من
    مبدئه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي فى الشمال‏.‏ ومخرج هذا النيل من
    جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة‏.‏ واختلفوا في ضبط هذه
    اللفظة‏.‏ فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه
    وكثرة ضوئه‏.‏ وفي كتاب المشترك لياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم
    من أهل الهند وكذا ضبطه ابن سعيد‏.‏ فيخرح من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل
    خمسة منها في بحيرة وبينهما ستة أميال‏.‏ ويخرج من كل واحدة من البحيرتين
    ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من
    ناحية الشمال‏.‏ وينقسم ماؤها بقسمين‏:‏ فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان
    مغرباً حتى يصب في البحر المحيط ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على
    بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من
    جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط ويصب واحد في بحيرة
    ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول وعلى هذا النيل بلاد
    النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان‏.‏ وحاضرة بلاد النوبة مدينة
    دنقلة وهي في غربي هذا النيل وبعدها علوة وبلاق وبعدهما جبل الجنادل على
    ستة مراحل من بلاق في الشمال وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة
    فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صباً هائلاً فلا يمكن أن تسلكه المراكب
    بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة
    الصعيد وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل‏.‏ وبين الجنادل وأسوان
    اثنتا عشرة مرحلة‏.‏ والواحات في غربيها عدوة النيل وهي الأن خراب وبها
    آثار العمارة القديمة‏.‏ وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد
    الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة فيصب هناك
    في النيل الهابط إلى مصر‏.‏ وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل
    القمر‏.‏ وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل‏.‏
    وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس ينتهي بحر الهند الذي يدخل من ناحية
    الصين ويغمرعامة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلا
    ما كان في الجزائر التي في داخله وهي متعددة يقال تنتهي إلى ألف جزيرة أو
    فيما على سواحله الجنوبية وهي آخر المعمور في الجنوب أو فيما على سواحله من
    جهة الشمال وليس منها في هذا الإقليم الأول إلا طرف من بلاد الصين في جهة
    الشرقي وفي بلاد اليمن‏.‏ وفي الجزء السادس من هذا الإقليم فيما بين
    البحرين الهابطين من هذا البحر الهندي إلى جهة الشمال وهما بحر قلزم وبحر
    فارس وفيما بينهما جزيرة العرب‏.‏ وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشحر في
    شرقيها على ساحل هذا البحر الهندي وعلى بلاد الحجاز واليمامة‏.‏ وما إليهما
    كما نذكره في الإقليم الثاني وما بعده فأما الذي على ساحل هذا البحر من
    غربيه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجة في شمالي الحبشة ما
    بين جبل العلاقي في أعالي الصعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهندي
    وتحت بلاد زالع من جهة الشمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر
    الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهندي ممتداً مع
    ساحل اليمن من الجنوب إلى الشمال في طول اثني عشر ميلاً فيضيق البحر بسبب
    ذلك إلى أن يصير في غرض ثلاثة أميال أو نحوها ويسمى باب المندب وعليه تمر
    مراكب اليمن إلى ساحل السويس قريباً من مصر‏.‏ وتحت باب المندب جزيرة سواكن
    ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجة من أمم السودان كما ذكرناه‏.‏ ومن
    شرقيه في هذا الجزء تهائم اليمن ومنها على ساحله بلد علي بن يعقوب‏.‏ وفي
    جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيه قرى بربر يتلو بعضها
    بعضاً‏.‏ وينعطف مع جنوبيه إلى آخر الجزء السادس‏.‏ ويليها هنالك من جهة
    شرقيها بلاد الزنج ثم بلاد سفالة على ساحله الجنوي في الجزء السابع من هذا
    الإقليم‏.‏ وفي شرقي بلاد سفالة من ساحله الجنوبي بلاد الواق واق متصلة إلى
    آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط‏.‏
    وأما جزائر هذا البحر فكثيرة من أعظمها جزيرة سرنديب مدورة الشكل وبها
    الجبل المشهور يقال ليس في الأرض أعلى منه وهي قبالة سفالة‏.‏ ثم جزيرة
    القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشرق منحرفة
    بكثير إلى الشمال إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصين ويحتف بها في هذا البحر
    من جنوبيها جزائر الواق واق ومن شرقيها جزائر السملان إلى جزائر آخر في
    هذا البحر كثيرة العدد وفيها أنواع الطيب والأفاوية وفيها يقال معادن الذهب
    والزمرد وعامة أهلها على دين المجوسية وفيهم ملوك متعددون‏.‏ وبهذه
    الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا‏.‏ وعلى الضفة
    الشمالية من هذا البحر في الجزء السادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلها‏.‏
    فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن وبعدها بلد صعدة مقر
    الإمامة الزيدية وهي بعيدة عن البحر الجنوبي وعن البحر الشرقي‏.‏ وفيما بعد
    ذلك مدينة عدن وفي شماليها صنعاء وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفار
    وبعدها أرض حضر موت ثم بلاد الشحر ما بين البحر الجنوبي وبحر فارس‏.‏ وهذه
    القطعة من الجزء السادس هي التي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم
    الوسطى وينكشف بعدها قليل من الجزء التاسع وأكثر منه من العاشر فيه أعالي
    بلاد الصين ومن مدنه الشهيرة خانكو وقبالتها من جهة الشرق جزائر السيلان
    وقد تقدم ذكرها‏.‏ وهذا آخر الكلام في الإقليم الأول الإقليم الثاني وهو
    متصل بالأول من جهة الشمال‏.‏ وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان
    من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها وفي الجزء الأول والثاني منه في الجانب
    الأعلى منهما أرض قنورية وبعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات
    زغاوة من السودان وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نيستر متصلة من الغرب إلى
    الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان وفيها
    مجالات الملثمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة
    ولمطة ووريكة‏.‏ وعلى سمت هذه المفاوز شرقاً أرض فزان ثم مجالات أزكار من
    قبائل البربر ذ


    عدل سابقا من قبل طلعت شرموخ في الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:46 pm عدل 1 مرات
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:11 pm

    [b]
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cul

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Up















    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cul

    الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة
    وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم
    ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه
    خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك
    العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر
    بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر
    بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك
    العمران بطبيعته من الأحوال‏.‏ ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله
    أسباب تقتضيه‏.‏ فمنها التشيعات للأراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على
    حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من
    كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة
    وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الإنتقاد والتمحيص فتقع
    في قبول الكذب ونقله‏.‏ ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة
    بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح‏.‏ ومنها الذهول عن
    المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على
    ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب‏.‏ ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء
    في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين‏.‏ ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على
    الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رأها وهي
    بالتصنع على غير الحق في نفسه‏.‏ ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة
    والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فتستفيض
    الأخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى
    الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا
    متنافسين في أهلها‏.‏ ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جمبع ما
    تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان
    أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا
    السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك
    تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه
    يعرض‏.‏ وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر
    عنهم‏.‏ كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء
    الإسكندرية وكيف اتخذ تابوت الخشب وفي باطنه صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر
    البحر حتى كتب صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد
    معدنية ونصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم له
    بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت
    الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على
    مثل هذا الغرر ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة
    واجتماع الناس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينتظرون به رجوعه عن غروره ذلك
    طرفة عين ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها إنما هي
    قادرة على التشكل وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد البشاعة
    والتهويل لا أنه حقيقة‏.‏ وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية‏.‏ والقادح
    المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله‏.‏ وهو أن المنغمس في الماء ولو
    كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته
    فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك
    مكانه‏.‏ وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء
    البارد والمتدلين في الأبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤه
    بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلي فيها يهلك لحينه‏.‏
    وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل
    رئته إذ هوحار بإفراط والماء الذي يعدله بارد والهواء الذي خرج إليه حار
    فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال
    ذلك‏.‏ ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور
    الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ومنه
    يتخذون زيتهم‏.‏ وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاد الزيت‏.‏
    ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من
    ثلاثين مرحلة تشتمل على عشرة آلاف باب‏.‏ والمدن إنما اتخذت للتحصن
    والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا
    معتصم‏!‏‏.‏ وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل
    بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب
    وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق
    ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص‏.‏
    وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على
    خبر‏.‏ ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور
    الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف
    في الأنية والخرثي وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران
    وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق
    على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك
    الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع‏.‏ وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في
    التعديل والتجريح‏.‏ ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول
    الففظ وتأويلة بما لا يقبله العقل‏.‏ وإنما كان التعديل والتجريح هو
    المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الشارع
    العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة
    والضبط‏.‏ وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار
    المطابقة‏.‏ فلذلك وجب أن ينظر في إمكان ؤقوعه وصار في ذلك أهم من التعديل
    ومقدماً عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج
    بالمطابقة‏.‏ وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار
    بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الأجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما
    يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا
    يمكن أن يعرض له‏.‏ وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من
    الباطل في الأخبار والصور من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه وحينئذ
    فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما
    نحكم بتزييفه‏.‏ وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الضد
    والصواب فيما ينقلونه‏.‏ وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تآليفنا‏.‏ وكان
    هذا علم مستقل بنفسه‏.‏ فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع
    الإنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة
    أخرى‏.‏ وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً‏.‏
    واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة
    أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص‏.‏ وليس من علم الخطابة الذي هو أحد
    العلوم المنطقية فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في
    استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه‏.‏ ولا هو أيضاً من علم السياسة
    المدنية إذ السياسه المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى
    الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهورعلى منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤة‏.‏ فقد
    خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه‏.‏ وكأنه علم مستنبط
    النشأة‏.‏ ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة‏.‏ ما أدري
    ألغفلتهم عن ذلكظ وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم
    يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون وما لم
    يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل‏.‏ فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي
    الله بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل وما ظهر
    عليهم آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم
    أمة واحدة وهم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك
    بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها‏.‏ ولم نقف على شيء من علوم غيرهم‏.‏
    وإذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض
    لذاتها وجب إن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه‏.‏ لكن
    الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات وهذا إنما ثمرته في
    الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن
    ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم ‏"‏

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdl
















    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cul



    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdr


    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdl
    [/b]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:04 pm

    [b]
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cul

















    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cul

    الموضوعات

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdl
















    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cur
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cul

    تمهيـــد
    المقدمة في فضل علم التاريخ
    فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر
    الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة
    الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة
    المقدمة الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري
    الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه
    المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم
    المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر
    المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا
    الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً
    فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها
    فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة
    فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس
    الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال
    الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
    الفصل الثاني
    الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه
    الفصل الرابع من أهل الحضر
    الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام
    الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية
    الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
    الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك
    الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع
    الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية
    الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية
    الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة
    الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي
    الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء
    الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها
    الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
    الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف
    الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل
    الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس
    الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب
    الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده
    الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
    الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان
    الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك
    الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
    الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل
    الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية
    الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية
    الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي
    الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك
    الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
    الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها
    الفصل التاسع في أن الأوطان الكثيرة القبائل
    الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد
    الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف
    الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون
    الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك
    الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
    الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة
    الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
    الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار
    الفصل الثامن عشر في أن أثار الدولة كلها
    الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه
    الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول
    الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه
    الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه
    الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر
    الفصل الخامس والعشرون في معني الخلافة والإمامة
    الفصل السابع والعشرون في الشيعة
    الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
    الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
    الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين
    الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية
    الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها
    الحجابة
    الشرطة
    الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم
    الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
    فصل: ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر
    الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
    الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
    الفصل الأربعون مفسدة للجباية
    الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان
    الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
    الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
    الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول
    الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها
    الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
    الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
    الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة
    الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
    الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري
    الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
    الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأم
    الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران

    الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
    الفصل الثالث في أن المدن العظيمة
    الفصل الخامس فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة
    الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم
    الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم
    الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة
    الفصل الثامن بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول
    الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل
    الفصل العاشر في مبادىء الخراب في الأمصار
    الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار
    الفصل الخامس في باب الكسب والرزق
    الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
    الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها
    الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها
    الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة
    الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول
    الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده
    الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها
    الفصل العشرون دون بعض
    الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار
    الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل
    الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما
    الفصل الثاني وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش
    الفصل الثالث في أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة
    الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي
    الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال
    الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً
    الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين
    الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو
    الفصل التاسع في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها
    الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة
    الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة
    الفصل الثالث عشر في الاحتكار
    الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص
    الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة
    الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم
    الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته
    الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع
    الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع
    الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع
    الفصل الثاني والعشرون في أن من حصلت له ملكة في صناعة
    الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع
    الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة
    الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء
    الفصل السادس والعشرون النجارة
    الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة
    الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد
    الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب
    الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة
    الفصل الحادي والثلاثون في صناعة الوراقة
    الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء
    الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب
    الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها
    الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي
    الفصل الثاني في أن تعليم العلم من جملة الصنائع
    الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر الثمران وتعظم الحضارة
    الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
    الفصل الخامس علوم القرآن من التفسير والقراءات
    الفصل السادس علوم الحديث
    الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض
    الفصل الثامن علم الفرائض
    الفصل التاسع أصول الفقه
    الفصل العاشر علم الكلام
    الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية
    الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه
    الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
    الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
    الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة
    الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا
    الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها
    الفصل العشرون العلوم العددية
    الفصل الحادي والعشرون العلوم الهندسية
    الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة
    الفصل الثالث العشرون علم المنطق
    الفصل الخامس والعشرون علم الطب
    الفصل السادس والعشرون الفلاحة
    الفصل السابع والعشرون علم الإلهيات
    الفصل الثامن والعشرون علوم السحر والطلسمات
    الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف
    فصل في المقامات للنهاية
    فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية
    فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية
    الفصل الثلاثون علم الكيمياء
    الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
    الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها
    الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها
    الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم
    الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات
    الفصل السابع والثلاثون وطريق إفادته
    الفصل الثامن والثلاثون
    الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
    الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
    الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
    الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها
    الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي
    علم الأدب
    الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية
    الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة
    الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار
    الفصل التاسع والأربعون في تعلم اللسان المضري
    الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم
    الفصل الحادي والخمسون في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه
    الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر
    الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه
    الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر
    الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ
    الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله
    الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد
    المقدمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم
    الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه إلى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم
    الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم
    قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن
    الخبر عن ملوك بابل من القبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة
    الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة
    الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدسة بالشام
    الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت
    الخبر عن ملوك بني إسرائيل بع الحكام ثم افتراق أمرهم
    الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم بيت المقدس على سبط يهوذا وبنيمامين إلى انقراضه
    الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم إلى حين انقراض أمرهم
    الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول
    ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس
    المؤرخون أربع طبقات
    الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية
    الخبر عن دولة يونان والروم و أنسابهم ومصايرهم كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكاً وسلطاناً
    الخبر
    عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان إلى انقراض
    أمرهم هؤلاء اليونانيون المتشبعون إلى الغريقيين واللطينيين
    الخبر عن اللطينيين وهو الكيتم المعروفون بالروم من أمم يونان و أشياعهم وشعوبهم
    الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل أفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون
    الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبد أ أمورهم ومصاير أحوالهم
    الخبر
    عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفحال ملكهم بقسطنطينية
    ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعده إلى انقراض أمرهم
    الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم
    الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالإندلس إلى حين الفتح الإسلامي وأولية ذلك ومصايره
    الخبر عن هم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمرونها بالمشرق
    الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش
    الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم
    الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها
    الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الذي كان فيها
    الخبر عن بطون كهلان
    الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذرمن هذه الطبقة وكيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم
    الخبر عن ذلك أن عدي بن زيد
    الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم
    الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قبيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة
    الخبر عن بني عدنان وانسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام
    الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة
    المولد الكريم وبدء التوحيد
    الهجرة
    غزوة بني قينقاع
    غزوة الغابة وذي قرد
    فتح مكة
    اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات
    خبر العنسي

    الخبر عن الخلافة الاسلامية في هذه الطبقة وما كان منها من الردة
    والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الاسلام ثم الاتفاق
    والجماعة
    بعث الجيوش للمرتدة
    فتح الحيرة
    أخبار القادسية
    فتح المدائن وجلولاء بعدها
    غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة
    فتح أذربيجان
    فتح قبرص

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 1_cdl

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdr
    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول 7_cdl

    [/b]
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:02 pm

    [b] فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر

    وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد
    ‏"‏ فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين‏.‏
    وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده
    وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنين
    مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة
    سنة وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت
    وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة‏.‏ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل
    مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من
    السماء فهلكوا كلهم‏.‏ ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من
    المفسرين وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له
    فوقع عليها وحمل منها ما قدرعليه وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه
    فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي‏:‏ ‏"‏ إرم ذات العماد
    ‏"‏ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمرأشقر قصير على حاجبه خال وعلى
    عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال‏:‏ هذا والله
    ذلك الرجل‏.‏ وهذه المدينة لم يسمع لها خبرمن يومئذ في شيء من بقاع
    الأرض‏.‏ وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال
    عمرانها متعاقباً والأدلاء تقص طرقها من كل وجه ولم ينقل عن هذه المدينة
    خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم‏.‏ ولو قالوا إنها درست فيما
    درس من الآثار لكان أشبه‏.‏ إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة‏.‏ وبعضهم
    يقول إنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها‏.‏ وقد ينتهي الهذيان ببعضهم
    إلى إنها غائبة وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر‏.‏ مزاعم كلها أشبه
    بالخرافات‏.‏ والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة
    ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء‏.‏
    ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين‏.‏ ثم
    وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة والتي هي أقرب إلى
    الكذب المنقولة في عداد المضحكات‏.‏ وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل
    الخيام‏.‏ وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين
    على العموم بما اشتهر من قوتهم ة لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو
    غيرها‏.‏ وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى
    القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار‏.‏ وأي ضرورة إلى هذا
    المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه مثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه
    كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة‏.‏ ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما
    ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن
    يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما
    في عقد النكاح دون الخلوة حرصاً على اجتماعهما في مجلسه وأن العباسة تحيلت
    عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة سكر
    فحملت ووشي بذلك للرشيد فاستغضب‏.‏ وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها
    وأبويها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة
    رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده‏.‏ والعباسة بنت محمد المهدي بن
    عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله
    ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابنة خليفة أخت
    خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته وإمامة
    الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية
    وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش‏.‏ فأين يطلب الصون
    والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والزكاء إذا فقد من بيتها أو كيف
    تلحم نسبها بجعفر بن يحيى تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم بملكة
    جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول وأشراف قريش‏.‏ وغايته أن جذبت
    دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف‏.‏ وكيف يسوغ
    من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم أبائه ولو نظر
    المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه
    لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج
    في تكذيبه‏.‏ وأين قدر العباسة والرشيد من الناس وإنما نكب البرامكة ما
    كان من استبدادهم على الدولة واحتجافهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب
    اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن
    له معهم تصرف في أمور ملكه‏.‏ فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة
    وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عن سواهم من وزارة وكتابة
    وقيادة وحجابة وسيف وقلم‏.‏ ويقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد
    خمسة وعشرون رئيساً من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة
    بالمناكب ودفعوهم عنها بالراح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد
    وخليفة حتى شب في حجره ودرج من غشه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت‏.‏
    فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم وانبسط الجاه عندهم
    وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطت إليهم من
    أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وسيرت إلى خزائنهم في سبيل التزلف
    والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء
    وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني ومدحوا بما لم
    يمدح به خليفتهم وأسنو لعفافهم الجوائز والصلات واستولوا على القرى
    والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك حتى آسفوا البطانة وأحقدوا
    الخاصة وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبت إلى مهادهم
    الوثير من الدولة عقارب السعاية حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم
    الساعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم ولا
    وزعتهم أواصر القرابة‏.‏ وقارن ذلك عند مخدومهم نواشي الغيرة والاستنكاف من
    الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة وانتهى بها
    الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبدالله بن الحسن
    بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج
    على المنصور‏.‏ ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم‏.‏
    على أمان الرشيد بخطه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري ودفعه
    الرشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره‏.‏ فحبسه مدة ثم حملته
    الدالة على تخلية سبيله والاستبداد بحل عقاله حرماً لدماء أهل البيت بزعمه
    ودالة على السلطان في حكمه‏.‏ وسأله الرشيد عنه لما وشي به إليه ففطن
    وقال‏:‏ أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان وأسرها في نفسه‏.‏ فأوجد السبيل
    بذلك على نفسه وقومه حتى ثل عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم
    وبدارهم وذهبت سلفاً ومثلاً للآخرين أيامهم‏.‏ ومن تأمل أخبارهم واستقصى
    سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الآثر ممهد الأسباب‏.‏ وانظرما نقله ابن
    عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكر في باب
    الشعراء من كتاب العقد في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم
    تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه
    وكذلك ماتحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً
    على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله‏:‏ ليت هنداً أنجزتنا ماتعد
    وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد وأن
    الرشيد لما سمعها قال‏:‏ ‏"‏ إي والله إني عاجز ‏"‏ حتى بعثوا بأمثال هذه
    كامن غيرته وسلطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء
    الحال‏.‏ وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر واقتران سكره
    بسكر الندمان فحاش لله ما علمنا عليه من سوء‏.‏ وأين هذا من حال الرشيد
    وهيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحابة
    العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ومكاتبته
    سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من
    العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها‏.‏ حكى الطبري
    وغيره أنه كان يصلي في كل يو مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج
    عاماً‏.‏ ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في
    الصلاة لما سمعه يقرأ ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني
    ‏"‏ وقال والله ما أدري لم فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضباً
    وقال يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً‏!‏ إياك إياك والقرآن والدين ولك ما
    شئت بعدهما‏.‏ وأيضاً فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه
    المنتحلين لذلك ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن إنما خلفه
    غلاماً‏.‏ وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها‏.‏
    وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ‏:‏ ‏"‏ يا أبا عبد الله إنه
    لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس
    كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة
    ‏"‏‏.‏ قال مالك‏:‏ ‏"‏ فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ ‏"‏‏.‏ ولقد
    أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت
    المال‏.‏ ودخل عليه يوماً وهو بمجلسه يباشر الخياطين في أرقاع الخلقان من
    ثياب عياله فاستنكف المهدي من ذلك وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين علي كسوة
    العيال عامنا هذا من عطائي فقال له لك ذلك ولم يصده عنه ولا سمح بالإنفاق
    من أموال المسلمين‏.‏ فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة
    وأبوته وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها أن يعاقر
    الخمر أو يجاهر بها‏.‏ وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب
    الخمر معلومة ولم يكن الكرم شجرتهم وكان شربها مذمة عند الكثير منهم
    والرشيد وأباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم
    والتخلق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب‏.‏ وانظر ما نقله الطبري
    والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته
    فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرشيد وارتاب به ودس
    خادمه حتى عاينه يتناوله فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في
    ثلاثة أقداح‏:‏ خلط إحداهما باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد
    والحلوى وصب على الثانية ماء مثلجاً وعلى الثالثة خمراً صرفاً‏.‏ وقال في
    الأول والثاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه وقال
    في الثالث‏:‏ هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه
    الرشيد وأحضره للتوبيخ أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط
    وأماع وتفتت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما‏.‏ فكانت له في ذلك
    معذرة‏.‏ وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند
    بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من
    انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع‏.‏ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر
    على مذهب أهل العراق‏.‏ وفتاويهم فيها معروفة وأما الخمر الصرف فلا سبيل
    إلى اتهامه به ولا تقليد الأخبار الواهية فيها‏.‏ فلم يكن الرجل بحيث يواقع
    محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة‏.‏ ولقد كان أولئك القوم كلهم
    بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما
    كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد‏.‏ فما ظنك
    بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلية إلى الحرمة‏.‏ ولقد اتفق
    المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية
    وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق
    والسيوف واللجم والسروج وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز
    بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد‏.‏ وهكذا كان حالهم أيضاً في ملابسهم
    فما ظنك بمشاربهم ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها
    من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله‏.‏ والله
    الهادي إلى الصواب‏.‏ ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن
    أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن
    في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه‏:‏ يا سيدي وأمير الناس كلهم قد
    جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل
    والدين وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد‏.‏ وشرابه إنما كان
    النبيذ ولم يكن محظوراً عندهم‏.‏ وأما السكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون
    إنما كانت خفة في الدين‏.‏ ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت‏.‏ ونقل من
    فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس ويتلمس
    الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم‏.‏ وثبت أنهما كانا يصليان الصبح
    جماعة‏.‏ فأين هذا من المعاقرة‏.‏ وأيضاً فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل
    الحديث‏.‏ وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرج عنه
    الترمذي كتابه الجامع وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامح
    فالقدح فيه قدح في جميعهم‏.‏ وكذلك ما يثبجه المجان بالميل إلى الغلمان
    بهتاناً على الله وفريه على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص
    الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسوداً في كماله وخلته ولقد
    ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا
    وأنكر ذلك إنكارا شديداً‏.‏ وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان
    يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد وقال أيضاً‏:‏
    يحيي بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمى به من أمر
    الغلمان ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنه كانت فيه
    دعابة وخسن خلق فرمي به‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ لا يشتغل بما
    يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه‏.‏ ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد
    ربه صاحب العقد من حديت الزنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في
    بنته بوران وأنه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى
    من بعض السطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل من الحرير فاقتعده وتناول المعالق
    فاهتزت وذهب صعداً إلى مجلس شأنه كذا‏.‏ ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته
    وجمال رؤيته ما يستوقف الطرف ويملك النفس وأن امرأة برزت له من خلل الستور
    في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن فحيته ودعته إلى المنادمة فلم
    يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد
    شغفته حباً بعثه‏.‏ على الإصهار إلى أبيها‏.‏ وأين هذا كله من حال المأمون
    المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من أبائه وأخذه بسير
    الخلفاء الأربعة‏.‏ أركان الملة ومناظرته للعلماء وحفظه لحدود الله تعالى
    في صلواته وأحكامه‏.‏ فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف
    بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر سبيل عشاق الأعراب‏.‏ وأين ذلك من منصب
    ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف‏.‏ وأمثال
    هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤزخين معروفة وإنما يبعث على وضعها والحديث
    بها الانهماك في اللذات المحرمة وهتك قناع المخدرات ويتعللون بالتأسي
    بالقوم فيما يأتونة من طاعة لذاتهم فلذلك تراهم كثيراً ما يلهجون بأشباه
    هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين‏.‏ ولو ائتسوا ا بهم
    في هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيراً لهم
    لو كانوا يعلمون‏.‏ ولقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه
    بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له‏:‏ ليس هذا من شأنك نذ ولا يليق
    بمنصبك فقال لي‏:‏ أفلا ترى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة
    ورئيس المغنين في زمانه فقلت له‏:‏ ياسبحان الله وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه
    أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم‏!‏ فصم عن عذلي وأعرض‏!‏
    والله يهدي من يشاء‏.‏ ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من
    المؤرخين والأثبات في العبيدين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم
    عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن
    جعفر الصادق‏.‏ يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني
    العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنناً الشمات بعدوهم حسبما نذكر
    بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة
    الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم‏.‏ فإنهم متفقون
    في حديثهم عن مبدإ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة
    للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي أبي القاسم
    خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر وأنهما خرجا
    من الإسكندرية في زي التجار ونمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر
    والإسكندرية فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما
    بما لبسوا به من الشارة والزي فأفلتوا إلى المغرب وأن المعتضد أوعز إلى
    الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بآخذ الآفاق
    عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر إليسع صاحب سجلماسة من آل مدرار على
    خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة هذا قبل أن تظهر الشيعة على
    الأغالبة بالقيروان‏.‏ ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب
    وإفريقية ثم باليمن ثم بالإسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز‏.‏ وقاسموا بني
    العباس في ممالك الإسلام شق الإبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون
    من أمرهم‏.‏ ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي
    الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء
    العجم وخطب لهم على منابرها حولاً كاملاً‏.‏ وما زال بنو العباس يغضون
    بمكانهم ودولتهم وملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم‏.‏
    وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر‏.‏ واعتبر حال
    القرمطي إذ كان دعياً في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت أتباعه وظهر
    سريعاً على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم‏.‏ ولو كان أمر
    العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة‏:‏ ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن
    خالها تخفى على الناس تعلم فقد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة
    وملكوا مقام إبراهيم عليه السلام ومصلاه وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم
    ومدفنة وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على
    أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام
    إسماعيل بن جعفر الصادق‏.‏ ولقد خرجوا مراراً بعد ذهاب الدولة ودروس آثرها
    داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة
    ويذهبون إلى تعيينهم بالوصيه ممن سلف قبلهم من الأئمة‏.‏ ولو ارتابوا في
    نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في
    أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحلة‏.‏ والعجب من القاضي أبي
    بكر الباقلاني شيخ النطارمن المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى
    هذا الرأي الضعيف‏.‏ فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين
    والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم
    بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في
    شأن ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم‏.‏
    وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها‏:‏ ‏"‏ يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك
    من الله شيئاً ‏"‏‏.‏ ومتى عرف امرؤ قضية أو استيقن أمراً وجب عليه أن
    يصدع به والله يقول الحق وهو يهدي السييل والقوم كانوا في مجال لظنون الدول
    بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرر
    خروجهم مرة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما
    قيل‏:‏ فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت وأين مكاني ما عرفن مكانيا حتى لقد
    سمي محمد بن اسماعيل جد الإمام عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم
    لما اتفقوا عليه من إخفائه حذراً من المتغلبين عليهم‏.‏ فتوسل شيعة بني
    العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم‏.‏ وازدلفوا بهذا الرأي الفائل
    للمستضعفين خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع
    الأعداء يدفعون عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن
    غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتاميين شيعة العبيديين وأهل
    دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب وشهد بذلك عندهم من
    أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي وأخوه المرتضى وابن البطحاوي ومن
    العلماء أبو حامد الأسفراييني والقدوري والصيمري وابن الأكفاني والأبيوردي
    وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة وغيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم
    مشهود وذلك لسنة ستين وأربعمائة في أيام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على
    السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون
    في هذا النسب فنقله الإخباريون كما سمعوه حسبما وعوه والحق من ورائه‏.‏ وفي
    كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة
    أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل
    أحد‏.‏ والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع
    وتلتمس فيه ضوال الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار وما نفق فيها
    نفق عند الكافة‏.‏ فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل والأفن والسفسفة
    وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص
    واللجين المصفى وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والبطل
    نفق البهرج والزائف‏.‏ والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه‏.‏
    ومثل هذا وأبعد منه كثيراً مايتنناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن
    عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم
    أجمعين الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرضون تعريض الحسد بالتظنن في
    الحمل المخلف عن إدريس الأكبر أنه لراشد مولاهم قبحهم الله وأبعدهم ما
    أجهلهم‏!‏ أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنه منذ دخل
    المغرب إلى أن توفاه الله عز وجل عريق في البدو وأن حال البادية في مثل ذلك
    غير خافية إذ لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من
    جاراتهن ومسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران وتطامن البنيان وعدم الفواصل بين
    المساكن‏!‏ وقد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاة بمشهد من
    أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافتهم‏.‏ وقد اتفق برابرة المغرب الأقصى عامة
    على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه وأتوه طاعتهم عن رضا وإصفاق وبايعوه
    على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته‏.‏ ولو حدثوا
    أنفسهم بمثل هذه الريبة أو قرعت أسماعهم ولو من عدو كاشح أو منافق مرتاب
    لتخلف عن ذلك ولو بعضهم‏.‏ كلا والله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس
    أقتالهم ومن بني الأغلب عمالهم كانوا بإفريقية وولاتهم‏.‏ وذلك أنه لما فر
    إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبه أن يقعدوا
    له بالمراصد ويذكوا عليه العيون فلم يظفروا به وخلص إلى المغرب فتم أمره
    وظهرت دعوته وظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على
    الإسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية وإدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب‏.‏
    فقتلة ودس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس فأظهر اللحاق
    به والبراءة من بني العباس مواليه‏.‏ فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله
    الشماخ في بعض خلواته سماً استهلكه به‏.‏ ووقع خبر مهلكه من بني العباس
    أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب واقتلاع
    جرثومتها‏.‏ ولما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا
    ولا‏.‏ وإذا بالدعوة قد عادت والشيعة بالمغرب قد ظهرت ودولتهم بإدريس بن
    إدريس قد تجمدت فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السهام وكان الفشل والهرم قد
    نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية - فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على
    إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب واشتمال البربر عليه إلا التحيل في
    إهلاكه بالسموم‏.‏ فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سد
    تلك الفرجة من ناحيتهم وحسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم واقتلاع تلك
    العروق قبل أن تشبح منهبم يخاطبهم بذلك المأمون ومن بعده من خلفائهم‏.‏
    فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز ولمثلها من الزبون على ملوكهم
    أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها وامتطائهم صهوة
    التغلب عليها وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها
    وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم‏:‏ خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول
    ما قالا له كما تقول الببغا فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات
    وتلوا بالمعاذير فطوراً باحتقار المغرب وأهله وطوراً بالإرهاب بشأن إدريس
    الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التخوم من عمله
    وينفذون سكته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم تعريضاً باستفحاله
    وتهويلاً باشتداد شوكته وتعظيماً لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه
    وتهديداً بقلب الدعوة إن ألجئوا إليه وطوراً يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك
    الطعن الكاذب تخفيضاً لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه لبعد المسافة وأفن
    عقول من خلف من صبية بني العباس ومماليكهبم العجم في القبول من كل فائل
    والسمع لكل ناعق‏.‏ ولم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه
    الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء وصر عليها بعص الطاعنين أذنه واعتدها ذريعة
    إلى النيل من خلفهم عند المنافسة‏.‏ وما لهم قبحهم الله والعدول عن مقاصد
    الشريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون‏.‏ وإدريس ولد على فراش أبيه
    والولد للفراش‏.‏ على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان
    فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً‏.‏ ففراش إدريس طاهر من
    الدنس ومنزة عن الرجس بحكم القرآن‏.‏ ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه
    وولج الكفر من بابه‏.‏ وإنما أطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب ودفعاً
    في صدر الحاسد لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم
    بفريته وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب ممن انحرف عن أهل البيت وارتاب في
    الإيمان بسلفهم‏.‏ وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه ونفي العيب حيث
    يستحيل العيب عيب‏.‏ لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا وأرجو أن يجادلوا
    عني يوم القيامة‏.‏ ولتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة
    لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإن ادعاء هذا النسب
    الكريم دعوى شرف عريض على الأمم والأجيال من أهل الأفاق فتعرض التهمة
    فيه‏.‏ ولما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فاس وسائر ديار المغرب قد
    بلغ من الشهرة والوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو
    نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف وبيت جدهم إدريس مختط
    فاس ومؤسسها بين بيوتهم ومسجده لصق محلتهم ودروبهم وسيفه منتضى برأس
    المئذنة العظمى من قرار بلدهم وغير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود
    التواتر مرات وكادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما
    أتاهم الله من أمثالها وما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم
    بالمغرب واستيقن أنه بمعزل عن ذلك وأنه لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه وأن
    غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن
    يسلم لهم حالهم لأن الناس مصدقون في أنسابهم وبون ما بين العلم والظن
    واليقين والتسليم فإذا علم ذلك من نفسه غص بريقه وود كثير منهم لو يردونهم
    عن شرفهم ذلك سوقة ووضعاء حسداً من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب
    اللجاج والبهت بمثل هذا الطعن الفائل والقول المكذوب تعللاً بالمساواة في
    الظنة والمشابهة في تطرق الاحتمال وهيهات لهم ذلك‏.‏ فليس في المغرب فيما
    نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب
    إدريس هذا من آل الحسن‏.‏ وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى
    الحوطي بن محمد يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل
    البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة
    حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة إن شاء الله تعالى‏.‏ ويلحق بهذه المقالات
    الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح
    في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما
    آتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي قبله وتكذيبهم لجميع
    مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت‏.‏
    وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه‏.‏ فإنهم
    لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم ثم امتاز
    عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه
    بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته‏.‏ وأيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك
    لمتونة أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السذاجة
    وانتحال الديانة‏.‏ فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب
    للشورى كل في بلده وعلى قدره في قومه‏.‏ فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحرباً
    لعدوهم ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهما والتثريب عليهم والمناصبة
    لهم تشيعاً للمتونة وتعصباً لدولتهم‏.‏ ومكان الرجل غير مكانهم وحاله على
    غير معتقداتهم‏.‏ وماظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف
    اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من
    أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصاراً وحامية
    وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت
    ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك
    الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم ودالت بالعدوتين من الدول
    وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا حتى قبضه
    الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح
    إليه النفوس وتخادع عن تمنيه‏.‏ فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه
    الله وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله‏.‏ ومع هذا فلو كان قصده غير
    صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ وأما
    إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم مع أنه إن ثبت أنه ادعاه
    وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدقون في أنسابهم‏.‏ وإن
    قالوا إن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما
    يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب والرجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا
    بانباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دغوته
    فاعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه ولا اتبعه الناس
    بسببه وإنما كان اتباعهم له بعصبية الهرغية والمصمودية ومكانه منها ورسوخ
    شجرته فيها‏.‏ وكان ذلك النسب الفاطمي خفياً قد درس عند الناس وبقي عنده
    وعند عشيرته يتناقلونه بينهم‏.‏ فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه ولبس
    جلدة هؤلاء وظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته إذ هو مجهول عند
    أهل العصابة‏.‏ ومثل هذا واقع كثيراً إذ كان النسب الأول خفياً‏.‏ وانظر
    قصه عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة
    حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهم منه
    وجه الحق‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏ وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب
    بالإطناب في هذه المغالط فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ
    في مثل هذه الأحاديث والأراء وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة
    النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا روية
    واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً وناظره مرتبكاً
    وعد من مناحي العامة‏.‏ فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة
    وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق
    والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة
    ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق
    منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها وأسباب حدوثها
    ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل
    حادث واقفاً على أصول كل خبر‏.‏ وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من
    القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً وإلا زيفه واستغنى
    عنه‏.‏ وما استكير القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري
    والبخاري وابن إسحق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن
    هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في
    المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل
    واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور‏.‏ ومن الغلط الخفي
    في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور
    الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد
    يتفطن له إلا الأحاد من أهل الخليقة‏.‏ وذلك أن أحوال العالم والأمم
    وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على
    الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات
    والأمصار فكذلك يقع‏!‏ في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي
    قد خلت في عباده‏.‏ وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون
    والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم
    وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء
    جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم‏.‏ ثم جاء من بعدهم الفرس
    الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما
    يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها‏.‏ ثم جاء الإسلام بدولة
    مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا
    العهد يأخذه الخلف عن السلف‏.‏ ثم درلست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف
    الذين شيدوا عزهم ومهدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل
    الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهما أمم
    وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها‏.‏ والسبب الشائع في تبدل
    الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال
    الحكمية‏:‏ الناس على دين الملك‏.‏ وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على
    الدولة والأمر فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذ الكثير منها
    ولايغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك‏.‏ فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد
    الجيل الأول‏.‏ فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها
    خالفت أيضاً بعض الشيء وكانت للأولى أشد فخالفة‏.‏ ثم لا يزال التدريج في
    المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة‏.‏ فما دامت الأمم والأجيال
    تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة‏.‏
    والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع
    الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من
    أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول
    وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيراً فيقع في
    مهواة من الغلط‏.‏ فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن
    أباه كان من المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية
    البعيدة من اعتزاز أهل العصبية والمعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم‏.‏ فيتشوف
    الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي
    ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات لهم‏.‏ فتذهب بهم وساوس المطامع وربما
    انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف ولا يعلمون
    استحالتها في حقهم وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأن التعليم صدر الإسلام
    والدولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلاً لما سمع
    من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب
    والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله
    عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو
    كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه
    وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه
    للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة‏.‏ ويشهد لذلك بعث
    النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام
    وما جاء به من شرائع الدين‏.‏ بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم‏.‏
    فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي
    أهلها واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من
    النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك القانون لمن يحفظه من الخطإ وصار
    العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأاصبح من حملة الصنائع والحرف كما يأتي ذكره
    في فصل العلم والتعليم واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع
    للعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل
    السلطان عن التصدي للتعليم واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقراً
    عند أهل العصبية والملك‏.‏ والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف
    وأشرافهم ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت‏.‏ ولم يكن
    تعليمة للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما
    كان على ما وصفناه من الأمر الأول في ا لإسلام‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً ما
    يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من
    الرياسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب
    يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل يظنون
    بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية
    إذا سمعوا إن أباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطنون
    لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من
    الكتاب الأول‏.‏ وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين
    بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها وكان مكانهم فيها معلوماً ولم يكن
    نيلهم لما نالوه كل الرياسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما
    كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها كما هي
    الوزارة لعهدنا بالمغرب‏.‏ وانظر خروجهم بالعساكر في الطوائف وتقليدهم
    عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في
    ذلك ويحمل الأحوال على غيرما هي‏.‏ وأكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء
    البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار
    بعيدة لفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر
    فبقيت أنسابهم العربية محفوظة والذريعة إلى العز من العصبية والتناصر مفقود
    بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبدهم القهر ورئموا للمذلة
    يحسبون أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب والتحكم فتجد
    أهل الحرف والصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله‏.‏ فأما من باشر أحوال
    القبائل والعصبية ودولهم بالعدوة الغربية وكيف يكون التغلب بين الأمم
    والعشائر فقلما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً
    ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه
    وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي
    الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم‏.‏ والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون
    تواريخهم لأهل الدولة وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم
    ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم
    وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم‏.‏ والقضاة أيضاً كانوا من
    أهل عصبية الدولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك
    كله‏.‏ وأما حين تباينت الدول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة
    الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في قوتها وغلبتها ومن كان
    يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر
    الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة
    لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد
    والغفلة وعن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ
    اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم كالحجاج
    وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الأخشيدي وابن أبي عامر
    وأمثالهم فغير نكير الإلماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في
    عداد الملوك‏.‏ ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أن
    التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل‏.‏ فأما ذكر الأحوال
    العامة للأفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده
    وتتبين به أخباره‏.‏ وقد كان الناس يفردونة بالتآليف كما فعله المسعودي في
    كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم والأفاق لعهده في عصر الثلاثين
    والثلاثمائة غرباً وشرقاً وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال
    والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم فصار إماماً للمؤرخين
    يرجعون إليه وأصلاً يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه‏.‏ ثم جاء
    البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من
    الأحوال لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم
    تغير‏.‏ وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب
    الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن
    طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم
    وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى
    ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون
    الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران
    ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل
    من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقض
    عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم
    وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن‏.‏ وكأني بالمشرق
    قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه‏.‏ وكأنما نادى
    لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر باإاجابة‏.‏ والله وارث
    الأرض ومن عل
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty رد: تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:00 pm

    المقدمة في فضل علم التاريخ
    وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء
    من أسبابها اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ
    هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم
    والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في
    أحوال الدين والدنيا‏.‏ فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر
    وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن
    الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد
    السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها
    بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد
    عن جادة الصدق‏.‏ وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط
    في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سميناً لم
    يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف
    على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار‏.‏ فضلوا عن الحق
    وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال
    والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من
    ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد‏.‏ وهذا كما نقل المسعودي وكثير من
    المؤرخين في جيوش بني اسرائيل وأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن
    أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف
    أو يزيدون‏.‏ ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد
    من الجيوش‏.‏ لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها
    وتضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة‏.‏ ثم إن
    مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال
    لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثا أو
    أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا
    يشعر بالجانب الآخر‏.‏ والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء
    بالماء‏.‏ ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد
    لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب
    بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم وهو من بعض عمال مملكة فارس‏.‏ يقال إنه
    كان مرزبان المغرب من تخومها‏.‏ وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء
    النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير‏.‏ ومع ذلك لم تبلغ جيوش
    الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريباً منه‏.‏ وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية
    مائة وعشرون ألفاً كلهم متبوع على ما نقله سيف قال‏:‏ وكانوا في أتباعهم
    أكثر من مائتي ألف‏.‏ وعن عائشة والزهري‏:‏ أن جموع رستم التي زحف بها لسعد
    بالقادسية إنما كانوا ستين ألفاً كلهم متبوع‏.‏ وأيضاً فلو بلغ بنو
    إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم وانفسح مدى لدولتهم فإن العمالات
    والممالك في الدول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها
    حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأول‏.‏ والقوم لم تتسع ممالكهم إلى
    غير الأردن وفلسطين من الشام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو
    المعروف‏.‏ وأيضاً فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره
    المحققون فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي
    بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله كذا نسبه في التوراة‏.‏
    والمدة بينهما على ما نقله المسعودي قال‏:‏ دخل إسرائيل مصر مع ولده
    الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفساً وكان مقامهم بمصر إلى أن
    يخرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك
    القبط من الفراعنة‏.‏ ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا
    العدد‏.‏ وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده
    فبعيد أيضاً إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أباً‏.‏ فإنه سليمان
    بن داود بن إيشا بن عوفيذ ويقال ابن عوفذ بن باعز ويقال بوعز بن سلمون بن
    نحشون بن عمينوذب ويقال حميناذاب بن رم بن حصرون ويقال حسرون بن بارس ويقال
    بيرس بن يهوذا بن يعقوب‏.‏ ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل
    هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئين والآلاف فربما يكون وأما أن يتجاوز
    إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد‏.‏ واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد
    والقريب المعروف تجد زعمهم باطلاً ونقلهم كاذباً‏.‏ والذي ثبت في
    الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفاً خاصة وأن مقرباته كانت
    ألفاً وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه‏.‏ هذا هو الصحيح من أخبارهم ولا
    يلتفت إلى خرافات العامة منهم‏.‏ وفي أيام سليمان عليه السلام وملكه كان
    عنفوان دولتهم واتساع ملكهم‏.‏ هذا وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا
    في الحديث في عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه وتفاوضوا في الأخبار
    عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج
    السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغلوا في العدد
    وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإغراب‏.‏ فإذا استكشفت أصحاب
    الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم
    واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لن تجد معشار ما يعدونه‏.‏ وما ذلك إلا
    لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب
    والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط
    ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب
    لسانه ويتخذ آيات الله هزواً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وحسبك
    بها صفقة خاسرة‏.‏ ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلوله كافة في أخبار
    التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى
    إفريقية والبربر من بلاد المغرب وأن افريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم
    الأول وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل‏.‏ غزا إفريقية وأثخن في
    البربر وأنه الذي سماهم بهذا الأسم حين سمع رطانتهم وقال‏:‏ ما هذه البربرة
    فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنه لما انصرف من المغرب حجز هنالك
    قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة ومن هذا
    ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والبيلي إلى أن صنهاجة وكتامة
    من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصحيح‏.‏ وذكر المسعودي أيضاً أن ذا
    الإذعار من ملوكهم قبل إفريقش وكان على عهد سليمان عليه السلام غزا المغرب
    ودوخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنه بلغ وادي الرمل من بلاد
    المغرب ولم يجد فيه مسلكاً لكثرة الرمل فرجع‏.‏ وكذلك يقولون في تبع الآخر
    وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأنف من ملوك الفرس الكيانية إنه ملك
    الموصل وأذربيجان ولقي الترك فهزمهم وأثخن ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك وإنه
    بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك
    وراء النهر وإلى بلاد الروم فملك الأول البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى
    لصين فوجد أخاه الثاني الذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد
    الصين ورجعا جميعاً بالغنائم وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير فهم بها إلى
    هذا العهد وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فحرسها ودوخ بلاد الروم ورجع‏.‏ وهذه
    الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص
    الموضوعة‏.‏ وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم
    صنعاء اليمن‏.‏ وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها‏:‏ فبحر الهند
    من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السويس الهابط
    منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب كماتراه في مصور الجغرافيا‏.‏
    فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقاً من غير السويس‏.‏ والمسلك
    هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما‏.‏ ويبعد أن
    يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله هذا
    ممتنغ في العادة‏.‏ وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط
    بمصر ثم ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشام ولم ينقل قط أن التبابعة
    حاربوا أحداً من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئاً من تلك الأعمال‏.‏ وأيضاً
    فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا
    ساروا في غير أعمالهم احتاجوا انتهاب الزرع والنعم وانتهاب البلاد فيما
    يمرون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك
    من أعمالهم فلا تفي لهم الرواحل بنقله فلا بد وأن يمروا في طريقهم كلها
    بأعمال قد ملكوها ودوخوها لتكون الميرة‏.‏ منها‏.‏ وإن قلنا إن تلك العساكر
    تمر بهؤلاء الأمم من غير أن تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد
    وأشد امتناعاً فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة‏.‏ وأما وادي الرمل
    الذي يعجز السالك فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقص طرقه
    من الركاب والقرى في كل عصر وكل جهة وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوافر
    الدواعي على نقله‏.‏ وأما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك وإن كانت طريقه أوسع
    من مسالك لسويس إلا أن الشقة هنا أبعد وأمم فارس والروم معترضون فيها دون
    الترك‏.‏ ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم وإنما
    كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة
    والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال وقد وقع ذلك بين يدي
    الإذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانية وبين تبع الأصغر أبي كرب ويستاسف
    منهم أيضاً ومع ملوك الطوائف بعد الكيانية والساسانية من بعدهم بمجاوزة أرض
    فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتبت وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة
    منهم والحاجة إلى الأزودة والعلوفات مع بعد الشقة كما مر‏.‏ فالأخبار بذلك
    واهية مدخولة‏.‏ وهي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحاً فيها فكيف وهي لم
    تنقل من وجه صحيح‏.‏ وقول ابن إسحق في خبر يثرب والأوس والخزرج‏:‏ إن تبعا
    الآخر سار إلى المشرق محمول على العراق وبلاد فارس‏.‏ وأما بلاد الترك
    والتبت فلا يصح غزوهم إليها بوجه لما تقرر‏.‏ فلا تثقن بما يلقى إليك من
    ذلك وتأمل الأخبار وأعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن
    وجه‏.‏ والله الهادي إلى الصواب‏.‏
    طلعت شرموخ
    طلعت شرموخ
    المدير التنفيذي
    المدير التنفيذي


    عدد المساهمات : 4259
    تاريخ التسجيل : 09/10/2010

    تاريخ ابن خلدون الجزء الأول Empty تاريخ ابن خلدون الجزء الأول

    مُساهمة من طرف طلعت شرموخ الثلاثاء ديسمبر 28, 2010 10:59 pm

    تمهيـــد

    يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون
    الحضرمي وفقه الله تعالى‏:‏ الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك
    والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى
    أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شي في السماوات والأرض ولا يفوت‏.‏
    أنشأنا من الأرض نسماً واستعمرنا فيها أجيالاً وأمماً ويسر لنا منها
    أرزاقاً وقسماً‏.‏ تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا
    الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء
    والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد
    النبي الأمي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمخض لفصاله
    الكون قبل ان تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وشهد بصدقه
    الحمائم والعنكبوت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في محبته واتباعه الأثر
    البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله
    عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم
    كثيراً‏.‏ أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال
    وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه
    الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد
    على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال
    وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاختفال وتؤدي إلينا شأن
    الخليقة كيف تقلبت بها ألاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا
    الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل
    للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل
    في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق‏.‏ وإن فحول المؤرخين في
    الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر
    وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف
    من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم
    واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال
    ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف
    التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في
    الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام
    وخيم وبيل‏.‏ والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه
    والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها
    صفحات الصواب ويصقل‏.‏ هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا
    تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا‏.‏ والذين ذهبوا بفضل الشهرة
    والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون
    لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري
    وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من
    المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من
    المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن
    الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم
    والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون‏.‏ أو اعتبارهم فللعمران
    طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار‏.‏ ثم
    إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام
    في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك‏.‏ ومن
    هؤلاء من استوعب ما قبل الملة هن الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن
    نحا منحاه‏.‏ وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم
    والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره
    واقتصر على أحاديث دولته ومصره‏.‏ كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة
    الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان‏.‏ شم لم
    يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك
    المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت
    به من عوائد الأمم والأجيال‏.‏ فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع
    في العصور الأول صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انتضيت من أغمادها
    ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع
    لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة
    بأعيانها اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة
    في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها‏.‏ ثم إذا
    تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً
    لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها
    ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال
    مبادىء الدول ومراتبها مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثاً عن
    المقنع في تباينها أوتناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب‏.‏ ثم جاء
    آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار
    مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما
    فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل‏.‏ وليس يعتبر
    لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا
    بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد‏.‏ ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور
    الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي
    وأنا المفلس أحسن السوم‏.‏ فأنشأت في التاريخ كتاباً رفعت به عن أحوال
    الناشئة من الأجيال حجاباً وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً وأبديت
    فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين
    عمروا المغرب في هذه الأعصار وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان
    لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف من الملوك والأنصار وهم العرب
    البربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب
    مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين
    سواهما‏.‏ فهذبت مناحيه تهذيباً وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً
    وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعته من بين المناحي مذهباً
    عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً‏.‏ وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما
    يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن
    وأسبابها ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك
    وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك‏.‏ ورتبتة على مقدمة
    وثلاثة كتب‏:‏ المقدمة‏:‏ في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع
    بمغالط المؤرخين‏.‏ الكتاب الأول‏:‏ في العمران وذكر ما يعرض فيه من
    العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما
    لذلك من العلل والأسباب‏.‏ الكتاب الثاني‏:‏ في أخبار العرب وأجيالهم
    ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من
    الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط
    واليونان والروم والترك والإفرنجة‏.‏ الكتاب الثالث‏:‏ في أخبار البربر ومن
    إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من
    الملك والدول‏.‏ ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره وقضاء الفرض
    والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فأفدت ما نقص
    من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت
    بها ما كتبته فى تلك الأسطار وأدرجتها في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من
    أمم النواحي وملوك الأمصار والضواحي سالكاً سبيل الاختصار والتلخيص مفتدياً
    بالمرام السهل من العويص داخلاً من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار
    على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعاباً وذلك من الحكم النافرة صعاباً
    وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً ؤأصبح للحكمة صواناً وللتاريخ جراباً‏.‏
    ولما كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر من أهل المدن والوبر والإلماع
    بمن عاصرهم من الدول الكبر وأفصح بالذكرى والعبر في مبتدإ الأحوال وما
    بعدها من الخبر سميته‏:‏ كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب
    والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر‏.‏ ولم أترك شيئاً في
    أولية الأجيال والدول وتعاصر الأمم الأول وأسباب التصرف والحول في القرون
    الخالية والملل وما يعرض في العمران من دولة وملة ومدينة وحلة وعزة وذلة
    وكثرة وقلة وعلم وصناعة وكسب وإضاعة وأحوال متقلبة مشاعة وبدو وحضر وواقع
    ومنتظر إلا واستوعبت جمله وأوضحت براهينه وعلله‏.‏ فجاء هذا الكتاب فذا بما
    ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة‏.‏ وأنا من بعدها موقن
    بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء راغب من
    أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء النظر بعين الانتقاد لا بعين
    الارتضاء والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء‏.‏ فالبضاعة بين أهل
    العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة والحسنى من الإخوان مرتجاة والله
    أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل‏.‏ وبعد أن
    استوفيت علاجه وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه وأوضحت بين العلوم
    طريقه ومنهاجه وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه أتحفت بهذه النسخة
    منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح الماهد المتحلي منذ خلع
    التمائم ولوث العمائم بحلى القانت الزاهد المتوشح من زكاء المناقب والمحامد
    وكرم الشمائل والشواهد بأجمل من القلائد في نحور الولائد المتناول بالعزم
    القوي الساعد والجد المؤاتي المساعد والمجد الطارف والتالد ذوائب ملكهم
    الراسي القواعد الكريم المعالي والمصاعد جامع أشتات العلوم والفوائد وناظم
    شمل المعارف الشوارد ومظهر الآيات الربانية في فضل المدارك الإنسانية بفكره
    الثاقب الناقد ورأيه الصحيح المعاقد النير المذاهب والعقائد نور الله
    الواضح المراشد ونعمته العذبة الموارد ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد
    ورحمته الكريمة المقالد التي وسعت صلاح الزمان الفاسد واستقامة المائد من
    الأحوال والعوائد وذهبت بالخطوب الأوابد وخلعت على الزمان رونق الشباب
    العائد وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند أمير المؤمنين
    أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان الكبير المجاهد المقدس أمير
    المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام من بني مرين الذين جددوا الدين
    ونهجوا السبيل للمهتدين ومحوا آثار البغاة المفسدين‏.‏ أفاء الله على الأمة
    ظلاله وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله‏.‏ وبعثته إلى خزانتهم الموقفة
    لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم حيث
    مقر الهدى ورياض المعارف خضلة الندى وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى
    والإمامة الكريمة الفارسية العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف وفضلها الغني
    عن التعريف تبسط له من العناية مهاداً وتفسح له في جانب القبول آماداً
    فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهاداً‏.‏ ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب وعلى
    حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب ومن مدد بصائرها منيرة نتائج القرائح
    والالباب‏.‏ والله يوزعنا شكر نعمتها ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها
    ويعيننا على حقوق خدمتها ويجعلنا من السابقين في ميدانها المجلين في حومتها
    ويضفي على أهل إيالتها وما أوى من الإسلام إلى حرم عمالتها لبوس حمايتها
    وحرمتها وهو سبحانه المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها بريئة من
    شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 12:18 pm