الآثار والحقيقة

في الحقيقة ان علم الاثار لا يخلو من التعقيد والنظريات المليئة
بالفرضيات، فهو يبحث في بقايا الانسان وآثاره منذ وجوده على الارض ويرتبط
بمدى نشاطه وتشييده لكل ما كان بحاجة اليه في حياته اليومية الاعتيادية. من
هنا، فالوضع الطبيعي لهذه البقايا والمخلفات التي تكونت خلال الفترات
الزمنية على مر العصور يجب ان تؤدي وكنتيجة طبيعية الى ايجاد عامل مساعد
وموحد للشعوب والثقافات المختلفة حتى تطور قدراتها من خلال معرفة ما مر به
الانسان في الماضي البعيد والاستفادة من خبراته التي تجسدت في المواقع التي
استقر بها. فدراسة المواد الاثرية المكتشفة والابنية والمواقع، تقود عمليا
الى معرفة تاريخ المنطقة و تجسد ايضا العلاقة بين الانسان وأرضه والمجتمع
الذي يعيش فيه ويرتبط به ارتباطا روحيا او بالنسب واللغة والدين كذلك.

ان
الاثار بالمفهوم الضمني يجب ان تكون عاملا مساعدا على وحدة الناس واضفاء
المودة وتحقيق العدالة التي يحلم بها كافة البشر والمقصود هنا الجماعات
التي تتنازع فيما بينها على الاحقية في السيطرة على الموارد وتحقيق السيادة
كاملة وتبرير ما يحقق مصالحها سواء اثبتت الاكتشافات الاثرية تلك
المفاهيم او لا فالفهم الحقيقي لهذه النظرة الايجابية يتطلب تجرد الانسان
من كافة المؤثرات التي نشأ عليها واكتسبها او تعلمها.

من هنا عندما
يقرأ الاثاريون التاريخ بعيون موضوعية مبنية على الحقائق الموجودة على
الارض والتي يتوصلون اليها عبر نتائج التنقيبات والتحليلات، فان النتائج
يجب ان تكون دائما لصالح الجميع ولايصال رسالة مفادها ان الواقع الموجود
ليس بالضرورة تعبيرا عن الفهم الذاتي للباحث والذي يعكس بشكل واضح قربه من
فكره وقناعاته التي نشأ عليها منذ ان بدأ عقله ينمو وبدأ يفكر ويسيطر على
محيطه وغرائزه.

هناك الكثير من الامور التي نجهلها او يجهل الكثير
من علماء الاثار تفسيرها في الميدان او اثناء اكتشافها وتفسر بعد سنوات
فتخرج النتائج احيانا وتكون غير مؤثرة واحيانا اخرى تحدث نوعا من ردود
الفعل الكبيره لأهميتها وفي نهاية المطاف تسجل لتدرس او يستفاد منها
كمعلومة وتتحدث عنها كافة او معظم النشرات التي تتطرق للموضوع.

وحتى
لا نبتعد عن الحقيقة المتأصلة و التي لا يحبذها معظم الاثريين فان الاثار
بالمفهوم الشعبي وكثيرا من المجتمعات الشرقية ما هي الا كنوز تقود للثراء
وان تحسنت الصورة قليلا فهي تدل على شيء بمفهوم جمالي او ظاهرة مميزة في
بعض الاحيان. وهذه الدلالات التي ترتبط في تقليد الانسان العادي عند تفكيره
بالآثار وما هيتها في معظم الاحيان. وبالطبع فهذا مفهوم بعيد عما يرجوه
المختصون والذين يتعاملون مع الآثار من منظور مختلف وخال من الحسابات
المادية والربحية لان هذا العلم ليس الا عملية تعليمية شاملة تدخل فيه علوم
الهندسة والاحياء والكيمياء والانثروبلوجيا ومعظم العلوم الانسانية
والاديان والفن وغيرها الكثير.

ان الواجب الذي يدفعنا للتعمق في فهم
الحقائق التي يبعثها علم الاثار ناتج عن الطموح الداخلي والغريزة المرتبطة
بوجدان الانسان وآفاقه المستقبلية نحو التحقق من الغائب الحاضر في اعماق
الماضي والذي قد يجعل المادة الظاهرة جزءا من هوية الانسان الموجود في محيط
الاثار ليشعر بان وجوده على ارضه لم يكن صدفة وانما جاء تتابعا لحضارات
وقيم وثقافات متعددة وجدت قبله على الارض التي يعتبرها جزءا منه ومن
تاريخه.

ان الذي اود ايصاله للقارئ العزيز ليستطيع تفسير الحالة
الموجودة والتي تجمع تناقضات عدة وتحديدا للمنطقة الجغرافية التي نقطن بها
والتي عرفت سابقا بمنطقة الشرق الادنى القديم ان هناك الكثير الكثير من
البقايا والمواقع الاثرية المنتشرة منها المكتشف ومنها غير المكتشف وهي
التي يتم التعامل معها ودراستها من قبل الباحثين ولكن الاختلاف عما هو
موجود في بعض الاماكن وتحديدا عند علماء الاثار غير المحايدين والذين
يروجون لفكرة معينة ويحاولون اثبات او تدعيم هذه الفكرة عبر محاولة اكتشاف
اثري موجود تحت الأنقاض وبقايا من الزمن البعيد الغابر، وبالتالي فعملية
البحث عندهم لا تتم بشكل علمي وفي الوضع الطبيعي والمثالي لا يجب ان يتم
الحكم على النتائج قبل ان تخرج او قبل ان تبدأ اعمال الاستكشاف في الميدان .
ولهذا الجانب من الالية او طريقة التفكير غير السليمة مدلولات واضحة وهي
ان من يستند الى هذه المنهجية من الدراسة يبتعد عن علم الاثار الذي هو بعيد
كل البعد عن البحث المرتبط بفكر ديني او ايدلوجي وبعيد ايضا عن شيء او فكر
محدد موجود بداخل فكر انسان او مجموعة انسانية تحاول اثباتها من خلال
الحفر والتنقيب لتربط ما هو موجود او ما يتم العثور عليه بالفكر الذي يسيطر
عليها واقصد هنا علماء الآثار التوراتيين الذين يحاولون تزييف الحقائق
الموجودة في العمق التاريخي والأثري عبر الماضي البعيد.

من هنا
وحين تكون الاهداف علمية، اقصد اهداف عمليات التنقيب التي يقوم بها علماء
الآثار تظهر الحقائق واضحة وخالية من الشوائب التي تفسد أو تشوه هذا العلم
الذي يهتم ويتصل بالانسان منذ ملايين السنين . لذا لا بد ان تقرأ الآثار
بعيون موضوعية تراعى فيها قدرة الانسان على ادراك ارتباطه بالماضي الذي
يعتبر جزءا لا يتجزأ من وجود الامة او الشعب ودليلا على الامتداد الحضاري
لأي أمة. والحقيقة المعروفة لدى الجميع هي ان ارتباط الانسان الفلسطيني
بأرضه لم يكن صدفة وانما هناك حقائق واضحة تدل على ان فلسطين بتراثها
وآثارها وتاريخها هي ارض عربية ولا يمكن لأحد ان يشكك بارتباط الفلسطيني
بأرضه ووطنه منذ آلاف السنين.

المقدرات الحضارية للشعب العربي
الفلسطيني التي امتدت عبر الزمن بقيت صامدة ويتجلى ذلك في كافة المعالم
الاثرية التي شيدها او انجزها الانسان الفلسطيني في وطنه وهي وان حاول
البعض طمسها وتخريبها الا ان هذه المعالم ستبقى حافظة لكل حكايات هذا الشعب
ليشهد كل حجر او معلم اثري على حكاية نبي او قائد او شاعر فلسطيني سكن في
هذا الوطن وترك حكايته لتعيش وتصل الى يومنا هذا وتعبر الزمن بالرغم من كل
المحاولات لطمسها.