بعدموافقة الخليفة عمر t والمجلس العسكري على فتح مصر وخطة الفتح، تحرك الجيش الإسلاميبقيادة عمرة بن العاص t وتحت قيادته دون أربعة الآلاف مقاتل معظمهم من الفرسان. سار عمروبجيشه من قَيْسارِية، حتى إذا مَرَّ بجبل الحلال قبل أن يبلغ العريش، وكانت تنزلبه قبائل من راشدة ومن لخم انضمت إليه، فأصبحت قواته أربعة آلاف سار بهم إلى مصر. وكانعمرو t قد جاء من بلاد الشام في ثلاثة آلاف وخمسمائة من عك، ثلثهم منغافق، ثم صاروا أربعة آلاف بمن انضم إليهم من راشدة ولخم، وعلى ذلك يصير الجيشالذي سار مع عمرو لفتح مصر كالآتي: -1160 من غافق (وغافق من عك؛ فهو غافق بن الشاهد بن عك). -2340 من عك. -500 من راشدة ولخم (وراشدة من لخم - راشدة بن مالك بن خالفة بن أد بن نمارة بنلخم). توجه عمروإلى العريش فأدركه عيد النحر (10 من ذي الحجة سنة 19هـ) كما ذكر ذلك البلاذري،فَضَحَّى عن أصحابه بكبش، وذلك اليوم كان يوافق 29 من نوفمبر 640م. وهنا وقع حادثبسيط ولكنه يكشف عن نفسية عمرو ونوعيته كقائد مسلم. فقدهلك جمل لرجل ممن خرج معه من الشام، فجاء إلىعمرو ليجد له ما يركبه، وكانوا في البادية فقال له عمرو: تحمل مع أصحابك حتى تبلغأول العامر. فلما بلغوا العريش عاد إليه الرجلفأمر له عمرو بجملين وقال له: "لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لميرحموكم هلكتم وهلكوا"!! فكانعمرو يدرك مسئوليته عن أصحابه وعن ركائبهم، وأنه يَهْلك ويُهلك أصحابه إن لميرحمهم ويدبر لهم ما يحملهم عليه. ولمابلغ المقوقس مجيء جيش المسلمين إلى مصر أرسل جيشًا لملاقاة عمرو، فتلاقيا علىالفرما فكان أول قتال. والفرما:مدينة من أقدم الرباطات المصرية بقرب الحدود الشرقية لمصر، وكانت في زمن الفراعنةحصن مصر من جهة الشرق؛ لأنها في طريق المغيرينعلى مصر اسماها القديم "بر آمون" أي: بيت الإله آمون، ومنه اسمها العبري"بَرَمُون"، والقبطي "برما"، ومن هذا أتى الاسم العربي وهوالفرما، وسماها الروم: "بيلوز"، ومعناها الوحلة؛ لأنها كانت واقعة فيمنطقة من الأوحال بسبب تغطية مياه البحر الأبيض لأراضي تلك المنطقة، وكانت الفرماتستقي الماء قديمًا من الفرع البيلوزي للنيل، وقد اندثرت هذه المدينة وتعرف اليومآثارها بتل الفرما، على بعد ثلاثة كيلو مترات من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلىبعد 23 كيلو مترًا شرقي محطة الطينة الواقعة على السكك الحديدية التي بين بورسعيدوالإسماعيلية. فتح الفرما.. تحليلٌ وردٌّ
فيتقدير بتلر أن فتح الفرما كان في منتصف يناير 640م، وينتقد "سيروس" إذلم يرسل عشرة آلاف من الروم ليهزموا الفئة القليلة من العرب بين العريش والفرما أوتحت حصن الفرما، ثم يخلص من ذلك أن سيروس بدأ خيانته للدولة بالاتفاق مع العربوإعانتهم على دولته، وقال: ولسنا نجد غير هذا الرأي ما نفسر به مسلكه، ولا سيما ماوقع منه بعد ذلك. وماذهب إليه بتلر لم تذهب إليه أية رواية من الروايات العربية؛ فقد كان بتلر يريد أنيعزو نجاح المسلمين في الاستيلاء على مدينة الفرما لسبب رئيسي، هو خيانة المقوقسقيرس العظمى للدولة؛ لأنه قَصَّر في حقها حين لم يبادر بإرسال عشرة آلاف جنديإليها ليعوقوا مسيرة عمرو، واكتفوا بالمسلحة التي كانت ترابط فيها للدفاع عنها. وقبلأن نتناول هذا الكلام بالرد والتفنيد نقول بادئ ذي بدء: إن الغرض المفهوم والمقصودمن منطق بتلر هو تجريد الفتح الإسلامي من مزية نصر استحقه بعد كفاح مرير استمرشهرًا أو شهرين. وفي معرض الإنصاف يقتضيناالواقع أن نقول: إن مساحة المدينة الرومانية كانت تحتمي بأسوارها وتتحصن بحصونها،ولو كانت قيادتها تعلم أنهم أقل عددًا من المسلمين وأضعف استعدادًا ما فكروا ولوللحظة واحدة في التخلي عن مزاياهم الحربية، والخروج للقاء المسلمين في ساحة تُعرَففيها أقدارُ الجيوش وأوزان الرجال. وما ذكرناه قبلُ يدل على وقوع قتال بينالطرفين، بل إن الكندي يقول: فتقدم عمرو إلى الفرما وبها جموع فقاتلهم فهزمهم. أما ما نرد به على ألفرد بتلر فيتلخص في نقطتين: الأولى:أن القيادة الرومانية كانت تعلم بيقين أن المسلمين في الطريق إلى مصر بعد أن خلصلهم الشام، كما يقول بتلر نفسه (ص 188)، ولذلك فقد كانت خطتهم في مواجهة هذا الزحفالذي أدركوا خطورته في حروب الشام المريرة أن يبذلوا أقصى الطاقة في حشد الجنودوإعدادها؛ انتظارًا وترقبًا لملاقاة جيوش المسلمين، وكان من أنسب المواقع لهذهالخطة حصن بابليون؛ لقوته وبُعدِه عن مراكز تجمع المسلمين، ولاتصاله وقربه منالعاصمة الإسكندرية والمواقع الأخرى التي كانت موزعة على اتساع مصر السفلى (الوجهالبحري). وهوتفكير صائب من جهة أن المسلمين كان عليهم لكي يصلوا إلى بابليون أن يقطعوا مسافةغير قصيرة، سوف تستنزف بعض قوتهم في مواقع متقدمة محصنة ومسلحة بالجند المستعدينللقتال، وهذه الخطة تستلزم بالضرورة عدم التفريط في عشرة آلاف جندي يُرسَلون إلىالفرما في ظروف كانت غير مأمونة، وربما لنتيجة غير مضمونة. الثانية:أن بتلر نفسه يؤكد أن إرسال عشرة آلاف جندي روماني إلى الفرما لو حدث لما حال بينالمسلمين وبين فتح هذه البلاد أمدًا طويلاً.وواضح أنه بهذا القول الذي لا لبس فيه يدافع من حيث لا يدري عن المقوقس والقيادةالعسكرية الرومانية في مصر؛ لأنهم لم يُستدرَجوا إلى الفرما، وبالتالي لم يكن فيتصرفاتهم أثناء زحف المسلمين على مصر، ذلك الخطأ المزعوم الذي رَتَّبَ عليه بتلرزعمًا لا يقل الادعاء فيه عن سابقه - إن لم يَفُقْهُ - ألا وهو الخيانة العظمىالتي اقترفها المقوقس ضد إمبراطوريته التي أذن برحيلها عن مصر. الفتوح بعد الفرما
كانعبد الله بن سعد بن أبي سرح على ميمنة الجيش منذ خروجه من قَيْسارِية إلى أن فرغمن حربه حتى تمام فتح مصر، ولا بد أن الروم البيزنطيين كانوا يتوقعون هذا الغزوبعد أن ضاعت منهم الشام، وصار من غير المقصود أنينصرف المسلمون عن أرض مصر، وكان أول قتال عند الفرما، وفي تقديرنا أنه بلغهاحوالى 25 من صفر عام 20هـ/ 11 من فبراير 641م، وكان بالفرما حصن للبيزنطيينفقاتلوه قتالاً شديدًا نحوًا من شهر حتى فتحها، وكانت حامية الفرما البيزنطيةمستعدة للقتال فحاربهم عمرو وهزمهم وحوى عسكرهم. ثمسار من الفرما لا يُدافَع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر، وهي مسافة تزيد بعضالشيء عن 100 كيلو متر، تحتاج في قطعها إلى ثلاثة أيام، فيكون قد بلغها حوالي 9 منربيع الآخر 20 هـ/ 26 من مارس 641م ولا بد إن كان عمرو قد حدد من قبل وجهته علىأرض مصر أن يكون هدفه الأساسي هو مدينة الإسكندرية التي زارها من قبل في الجاهلية؛فهي عاصمة البلاد، وتتصل بالقسطنطينية بحرًا وبكافة موانئ الدولة على بحر الروم،وهي أكبر حاضرة في مصر منذ بناها الإسكندر الأكبر، ولكي يزول حكم الروم تمامًا عنمصر فإنه يتعين إخراجهم من كل شبر من أرضها، فكيف يكون طريقه إليها؟ لا بد أنه قدحدد مساره؛ هل يخترق أرض الدلتا بزروعهاوأنهارها وفيض مائها، أو يدور حولها من جنوبها إلى غربها ويساير الصحراء حتى يصلإلى الإسكندرية؟ اختارعمرو الخيار الثاني، وهو الطبيعي والمنطقي، فالسير في الصحراء أفضل للعربي ودوابهمن التورط بين الحقول وأوحالها، خاصة وقد كان الفصل شتاء، ولو أنه لا فيضان للنيلفي هذا الفصل فإن احتمال سقوط الأمطار وارد، هذا فضلاً عن تعدد فروع النيل وبحيراتشمال الدلتا. كما أن هذا الاختيار هو الضروي حربيًّا فإن هناك من حصون الروم ما لابُدَّ من تصفيته قبل الوصول إلى الإسكندرية؛ حتى لا يتركها مشحونة بالجنود وراءظهره. وقررعمرو أن يكون هدفه الأول هو حصن بابليون؛ فهو أكبر هذه الحصون وأحصنها، ومكانه علىالساحل الشرقي لنهر النيل، وموقعه الحالي بحي مصر القديمة من مدينة القاهرة، فهوبين دلتا النيل وصعيد مصر، وكانت الإسكندرية ذاتها قلعة يحيط بها سور حصين، كماكانت هناك حصون في أم دنين، ومكانها اليوم من مدينة القاهرة أيضًا، (وأتريب) نواحيبنها، ومنوف ونقيوس وسخا وكريون، وفي الصعيد كانت حصون أخرى؛ فموقع حصن بابليون لميكن عبثًا، وإنما كان عن اختيار حربي سديد. سارعمرو من القواصر لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس (حوالي 45 كيلو مترًا)مسيرة يوم، فقاتل حاميتها نحوًا من شهر، حتى فتح الله عليه حوالي 9 من شهر جمادىالأولى 20هـ/ 24 أبريل 641هـ. ثمسار لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أم دنين (مسافة 70 كيلو مترًا) مسيرة يومين،فقاتل الروم بها قتالاً شديدًا، وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده،فأمده بأربعة آلاف لاستكمال الفتح. يقولساويرس بن المقفع عن المسلمين: وكانت أُمَّة مُحبَّة للبرية؛ فأخذوا الجبل حتىوصلوا إلى قصر (حصن) مبني بالحجارة بين الصعيد والريف يسمى بابليون، فضربوا خيامهمهناك حتى ترتبوا لمقاتلة الروم ومحاربتهم. بطبيعةالحال بلغ المقوقس -وهو حاكم مصر من قبل الدولة البيزنطية وكان مقره بالإسكندرية-قدوم عمرو بن العاص بجيشه، وكان يتابعه وهو يتحرك على أرض مصر، فتوجه منالإسكندرية إلى حصن بابليون لملاقاة المسلمين، وكان على الحصن قائد من الرومانعُرِفَ بالأعيرج وقيل الأعرج. ويبدو أن هذه صفةله ولم تكن اسمًا بالمعنى الصحيح، وكما جاء الخبر إلى المقوقس سيروس كذلك جاء خبرقدوم عمرو بجيش من المسلمين إلى البطرك بنيامين المختفي في صعيد مصر، فكتب إلىالقبط على أرض مصر يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهمباستقبال عمرو!! ولابد أن البطرك بنيامين قد علم بانتصار المسلمين من الإنجيل، كما علم بانتصارات المسلمينعلى الفرس بالعراق وعلى الروم ببلاد الشام، وتراجع هرقل إلى عاصمته، كما كانبنيامين مطلوبًا من الروم لإعدامه كما أعدموا أخاه مينا، وصبوا عذابهم على قبطمصر، ولعله أيضًا أن يكون قد علم بمعاملة المسلمين لأهل العراق والشام، فليس غريبًا- بل منطقيًّا - أن ينحاز بالقبط إلى جانب المسلمين. معركة عين شمس:
(الاثنين1 من شهر جمادى الأولى 20 هـ/ 30 من إبريل 641م) لقدذكر حنا النقيوسي معركة على جانب من الأهمية ولم يذكرها الرواة المسلمون، فقد جاءجيش المسلمين إلى تندونياس Tenauniass (أم دنين) وأرسى إلى النهر، وأن عمرو بن العاص أرسل إلى عمر بنالخطاب رضى الله عنهما يطلب المدد فجاءه أربعة آلاف، وقَسَّم عمرو بن العاص tقواته إلى ثلاث فرق: 1-فرقة بالقرب من تندونياس. 2-الثانية إلى الشمال من بابليون. 3-والثالثة قريبًا من مدينة "أون"، وهي عين شمس (هليوبوليس). وأنالروم لم يفطنوا إلى ما فعله عمرو بن العاص، فسار جيشهم من بابليون نحو جيشالمسلمين، وبدأ الالتحام بناحية عين شمس، ثم انقضت قوات المسلمين بأعداد كبيرة من"تندويناس" من الفريق الثاني وتدفقت عليهم من ورائهم بأعداد كبيرة،فهربت قوات الروم نحو السفن، وسقطت تندونياس بيد المسلمين، فسحقوا حاميتها ولم ينجُمنها سوى 300 استطاعوا الفرار إلى الحصن وأغلقوا أبوابه، ثم غلب عليهم الخوفوالحزن، ففروا بالسفن إلى نقيوس. حصن بابليون:
كانالحصن على الساحل الشرقي لنهر النيل على الطريق بين منف وهليوبوليس، وما زالت لهبقايا بمصر القديمة من أحياء القاهرة، وليس هناك رأي مؤكد عن تاريخ بناء الحصن،ولكن على الرغم من قدمه وأهمية موقعه فلا نكاد نجد له ذكرًا مع أحداث التاريخ سوىما كان في أيام الفتح الإسلامي. وكانموقع الحصن على النيل يوفر له الماء، كما كان يتصل من خلفه بالسفن، وكان له بابيفتح على أرصفة رسوها، وكان تجاه الحصن تحصينات أخرى في الجزيرة (الروضة) علىالشاطئ المقابل من النيل، وكانت مدينة بابليون تمتد جنوب الحصن، أما شماله فكانتحدائق للكروم، كما كانت هناك مزارع إلى الشرق بينه وبين جبل المقطم. أمامبنى الحصن فكان من خمسة طبقات من الحجر الجيري، بارتفاع ثلاثة أقدام، يعلوهاطبقات من الحجر بارتفاع قدم واحد، فكل طبقتين معًا حوالي 4 أقدام، ثم يتكرر هذاالنسق من القاعدة إلى القمة. وكانمن ضمن أسوار الحصن أبراج تتخلل أضلاعه الشمالية والشرقية والجنوبية، طول البرج 2.10مترًا، وعرضه 7.6 مترًا، وفي كل طابق خمس نوافذ بعرض 1.4 مترًا في الطابقين الأولوالثاني، و 0.7 مترًا في الطابق الثالث، أما الأبراج الجنوبية فكان بها سبع نوافذ،وكان الضلع الغربي يمتد على النيل وبه صرحان مستديران مرتفعان يكشفان من جبلالمقطم شرقًا إلى الجيزة والأهرام والصحراء غربًا، وحتى مسلة عين شمس شمالاً، وكانقطر كل منهما نحوًا من 30 مترًا مطلة على النهر، وكانت أسوار الحصن ترتفع إلى نحو18 مترًا. أما سُمْك جدار السور فقد ذكر بتلر أنآثاره تدل على أنه كان ثمانية عشر قدمًا ( 5.5 مترًا)، وكان ارتفاع النوافذ فيالطابق الأوسط ثلاثة أمتار، أما في الأعلى فكان مترًا ونصف، ويعلو كل نافذة عقدمقوس. وكانله باب كبير بين الصرحين، وباب آخر في الضلع الجنوبي الغربي يفتح على درج يهبط إلىمرساه على النيل من الحديد، يدلى من أعلى خلال مجريين بالجدران، ويسلك منه طريقبطول الحصن حتى الباب بالضلع الشمالي الشرقي، وكان الحصن على مستوى من الأرض يعلوما حوله، كما كان حوله خندق وكانت مساحته حوالي عشرة أفدنة.
فيتقدير بتلر أن فتح الفرما كان في منتصف يناير 640م، وينتقد "سيروس" إذلم يرسل عشرة آلاف من الروم ليهزموا الفئة القليلة من العرب بين العريش والفرما أوتحت حصن الفرما، ثم يخلص من ذلك أن سيروس بدأ خيانته للدولة بالاتفاق مع العربوإعانتهم على دولته، وقال: ولسنا نجد غير هذا الرأي ما نفسر به مسلكه، ولا سيما ماوقع منه بعد ذلك. وماذهب إليه بتلر لم تذهب إليه أية رواية من الروايات العربية؛ فقد كان بتلر يريد أنيعزو نجاح المسلمين في الاستيلاء على مدينة الفرما لسبب رئيسي، هو خيانة المقوقسقيرس العظمى للدولة؛ لأنه قَصَّر في حقها حين لم يبادر بإرسال عشرة آلاف جنديإليها ليعوقوا مسيرة عمرو، واكتفوا بالمسلحة التي كانت ترابط فيها للدفاع عنها. وقبلأن نتناول هذا الكلام بالرد والتفنيد نقول بادئ ذي بدء: إن الغرض المفهوم والمقصودمن منطق بتلر هو تجريد الفتح الإسلامي من مزية نصر استحقه بعد كفاح مرير استمرشهرًا أو شهرين. وفي معرض الإنصاف يقتضيناالواقع أن نقول: إن مساحة المدينة الرومانية كانت تحتمي بأسوارها وتتحصن بحصونها،ولو كانت قيادتها تعلم أنهم أقل عددًا من المسلمين وأضعف استعدادًا ما فكروا ولوللحظة واحدة في التخلي عن مزاياهم الحربية، والخروج للقاء المسلمين في ساحة تُعرَففيها أقدارُ الجيوش وأوزان الرجال. وما ذكرناه قبلُ يدل على وقوع قتال بينالطرفين، بل إن الكندي يقول: فتقدم عمرو إلى الفرما وبها جموع فقاتلهم فهزمهم. أما ما نرد به على ألفرد بتلر فيتلخص في نقطتين: الأولى:أن القيادة الرومانية كانت تعلم بيقين أن المسلمين في الطريق إلى مصر بعد أن خلصلهم الشام، كما يقول بتلر نفسه (ص 188)، ولذلك فقد كانت خطتهم في مواجهة هذا الزحفالذي أدركوا خطورته في حروب الشام المريرة أن يبذلوا أقصى الطاقة في حشد الجنودوإعدادها؛ انتظارًا وترقبًا لملاقاة جيوش المسلمين، وكان من أنسب المواقع لهذهالخطة حصن بابليون؛ لقوته وبُعدِه عن مراكز تجمع المسلمين، ولاتصاله وقربه منالعاصمة الإسكندرية والمواقع الأخرى التي كانت موزعة على اتساع مصر السفلى (الوجهالبحري). وهوتفكير صائب من جهة أن المسلمين كان عليهم لكي يصلوا إلى بابليون أن يقطعوا مسافةغير قصيرة، سوف تستنزف بعض قوتهم في مواقع متقدمة محصنة ومسلحة بالجند المستعدينللقتال، وهذه الخطة تستلزم بالضرورة عدم التفريط في عشرة آلاف جندي يُرسَلون إلىالفرما في ظروف كانت غير مأمونة، وربما لنتيجة غير مضمونة. الثانية:أن بتلر نفسه يؤكد أن إرسال عشرة آلاف جندي روماني إلى الفرما لو حدث لما حال بينالمسلمين وبين فتح هذه البلاد أمدًا طويلاً.وواضح أنه بهذا القول الذي لا لبس فيه يدافع من حيث لا يدري عن المقوقس والقيادةالعسكرية الرومانية في مصر؛ لأنهم لم يُستدرَجوا إلى الفرما، وبالتالي لم يكن فيتصرفاتهم أثناء زحف المسلمين على مصر، ذلك الخطأ المزعوم الذي رَتَّبَ عليه بتلرزعمًا لا يقل الادعاء فيه عن سابقه - إن لم يَفُقْهُ - ألا وهو الخيانة العظمىالتي اقترفها المقوقس ضد إمبراطوريته التي أذن برحيلها عن مصر. الفتوح بعد الفرما
كانعبد الله بن سعد بن أبي سرح على ميمنة الجيش منذ خروجه من قَيْسارِية إلى أن فرغمن حربه حتى تمام فتح مصر، ولا بد أن الروم البيزنطيين كانوا يتوقعون هذا الغزوبعد أن ضاعت منهم الشام، وصار من غير المقصود أنينصرف المسلمون عن أرض مصر، وكان أول قتال عند الفرما، وفي تقديرنا أنه بلغهاحوالى 25 من صفر عام 20هـ/ 11 من فبراير 641م، وكان بالفرما حصن للبيزنطيينفقاتلوه قتالاً شديدًا نحوًا من شهر حتى فتحها، وكانت حامية الفرما البيزنطيةمستعدة للقتال فحاربهم عمرو وهزمهم وحوى عسكرهم. ثمسار من الفرما لا يُدافَع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر، وهي مسافة تزيد بعضالشيء عن 100 كيلو متر، تحتاج في قطعها إلى ثلاثة أيام، فيكون قد بلغها حوالي 9 منربيع الآخر 20 هـ/ 26 من مارس 641م ولا بد إن كان عمرو قد حدد من قبل وجهته علىأرض مصر أن يكون هدفه الأساسي هو مدينة الإسكندرية التي زارها من قبل في الجاهلية؛فهي عاصمة البلاد، وتتصل بالقسطنطينية بحرًا وبكافة موانئ الدولة على بحر الروم،وهي أكبر حاضرة في مصر منذ بناها الإسكندر الأكبر، ولكي يزول حكم الروم تمامًا عنمصر فإنه يتعين إخراجهم من كل شبر من أرضها، فكيف يكون طريقه إليها؟ لا بد أنه قدحدد مساره؛ هل يخترق أرض الدلتا بزروعهاوأنهارها وفيض مائها، أو يدور حولها من جنوبها إلى غربها ويساير الصحراء حتى يصلإلى الإسكندرية؟ اختارعمرو الخيار الثاني، وهو الطبيعي والمنطقي، فالسير في الصحراء أفضل للعربي ودوابهمن التورط بين الحقول وأوحالها، خاصة وقد كان الفصل شتاء، ولو أنه لا فيضان للنيلفي هذا الفصل فإن احتمال سقوط الأمطار وارد، هذا فضلاً عن تعدد فروع النيل وبحيراتشمال الدلتا. كما أن هذا الاختيار هو الضروي حربيًّا فإن هناك من حصون الروم ما لابُدَّ من تصفيته قبل الوصول إلى الإسكندرية؛ حتى لا يتركها مشحونة بالجنود وراءظهره. وقررعمرو أن يكون هدفه الأول هو حصن بابليون؛ فهو أكبر هذه الحصون وأحصنها، ومكانه علىالساحل الشرقي لنهر النيل، وموقعه الحالي بحي مصر القديمة من مدينة القاهرة، فهوبين دلتا النيل وصعيد مصر، وكانت الإسكندرية ذاتها قلعة يحيط بها سور حصين، كماكانت هناك حصون في أم دنين، ومكانها اليوم من مدينة القاهرة أيضًا، (وأتريب) نواحيبنها، ومنوف ونقيوس وسخا وكريون، وفي الصعيد كانت حصون أخرى؛ فموقع حصن بابليون لميكن عبثًا، وإنما كان عن اختيار حربي سديد. سارعمرو من القواصر لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس (حوالي 45 كيلو مترًا)مسيرة يوم، فقاتل حاميتها نحوًا من شهر، حتى فتح الله عليه حوالي 9 من شهر جمادىالأولى 20هـ/ 24 أبريل 641هـ. ثمسار لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أم دنين (مسافة 70 كيلو مترًا) مسيرة يومين،فقاتل الروم بها قتالاً شديدًا، وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده،فأمده بأربعة آلاف لاستكمال الفتح. يقولساويرس بن المقفع عن المسلمين: وكانت أُمَّة مُحبَّة للبرية؛ فأخذوا الجبل حتىوصلوا إلى قصر (حصن) مبني بالحجارة بين الصعيد والريف يسمى بابليون، فضربوا خيامهمهناك حتى ترتبوا لمقاتلة الروم ومحاربتهم. بطبيعةالحال بلغ المقوقس -وهو حاكم مصر من قبل الدولة البيزنطية وكان مقره بالإسكندرية-قدوم عمرو بن العاص بجيشه، وكان يتابعه وهو يتحرك على أرض مصر، فتوجه منالإسكندرية إلى حصن بابليون لملاقاة المسلمين، وكان على الحصن قائد من الرومانعُرِفَ بالأعيرج وقيل الأعرج. ويبدو أن هذه صفةله ولم تكن اسمًا بالمعنى الصحيح، وكما جاء الخبر إلى المقوقس سيروس كذلك جاء خبرقدوم عمرو بجيش من المسلمين إلى البطرك بنيامين المختفي في صعيد مصر، فكتب إلىالقبط على أرض مصر يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهمباستقبال عمرو!! ولابد أن البطرك بنيامين قد علم بانتصار المسلمين من الإنجيل، كما علم بانتصارات المسلمينعلى الفرس بالعراق وعلى الروم ببلاد الشام، وتراجع هرقل إلى عاصمته، كما كانبنيامين مطلوبًا من الروم لإعدامه كما أعدموا أخاه مينا، وصبوا عذابهم على قبطمصر، ولعله أيضًا أن يكون قد علم بمعاملة المسلمين لأهل العراق والشام، فليس غريبًا- بل منطقيًّا - أن ينحاز بالقبط إلى جانب المسلمين. معركة عين شمس:
(الاثنين1 من شهر جمادى الأولى 20 هـ/ 30 من إبريل 641م) لقدذكر حنا النقيوسي معركة على جانب من الأهمية ولم يذكرها الرواة المسلمون، فقد جاءجيش المسلمين إلى تندونياس Tenauniass (أم دنين) وأرسى إلى النهر، وأن عمرو بن العاص أرسل إلى عمر بنالخطاب رضى الله عنهما يطلب المدد فجاءه أربعة آلاف، وقَسَّم عمرو بن العاص tقواته إلى ثلاث فرق: 1-فرقة بالقرب من تندونياس. 2-الثانية إلى الشمال من بابليون. 3-والثالثة قريبًا من مدينة "أون"، وهي عين شمس (هليوبوليس). وأنالروم لم يفطنوا إلى ما فعله عمرو بن العاص، فسار جيشهم من بابليون نحو جيشالمسلمين، وبدأ الالتحام بناحية عين شمس، ثم انقضت قوات المسلمين بأعداد كبيرة من"تندويناس" من الفريق الثاني وتدفقت عليهم من ورائهم بأعداد كبيرة،فهربت قوات الروم نحو السفن، وسقطت تندونياس بيد المسلمين، فسحقوا حاميتها ولم ينجُمنها سوى 300 استطاعوا الفرار إلى الحصن وأغلقوا أبوابه، ثم غلب عليهم الخوفوالحزن، ففروا بالسفن إلى نقيوس. حصن بابليون:
كانالحصن على الساحل الشرقي لنهر النيل على الطريق بين منف وهليوبوليس، وما زالت لهبقايا بمصر القديمة من أحياء القاهرة، وليس هناك رأي مؤكد عن تاريخ بناء الحصن،ولكن على الرغم من قدمه وأهمية موقعه فلا نكاد نجد له ذكرًا مع أحداث التاريخ سوىما كان في أيام الفتح الإسلامي. وكانموقع الحصن على النيل يوفر له الماء، كما كان يتصل من خلفه بالسفن، وكان له بابيفتح على أرصفة رسوها، وكان تجاه الحصن تحصينات أخرى في الجزيرة (الروضة) علىالشاطئ المقابل من النيل، وكانت مدينة بابليون تمتد جنوب الحصن، أما شماله فكانتحدائق للكروم، كما كانت هناك مزارع إلى الشرق بينه وبين جبل المقطم. أمامبنى الحصن فكان من خمسة طبقات من الحجر الجيري، بارتفاع ثلاثة أقدام، يعلوهاطبقات من الحجر بارتفاع قدم واحد، فكل طبقتين معًا حوالي 4 أقدام، ثم يتكرر هذاالنسق من القاعدة إلى القمة. وكانمن ضمن أسوار الحصن أبراج تتخلل أضلاعه الشمالية والشرقية والجنوبية، طول البرج 2.10مترًا، وعرضه 7.6 مترًا، وفي كل طابق خمس نوافذ بعرض 1.4 مترًا في الطابقين الأولوالثاني، و 0.7 مترًا في الطابق الثالث، أما الأبراج الجنوبية فكان بها سبع نوافذ،وكان الضلع الغربي يمتد على النيل وبه صرحان مستديران مرتفعان يكشفان من جبلالمقطم شرقًا إلى الجيزة والأهرام والصحراء غربًا، وحتى مسلة عين شمس شمالاً، وكانقطر كل منهما نحوًا من 30 مترًا مطلة على النهر، وكانت أسوار الحصن ترتفع إلى نحو18 مترًا. أما سُمْك جدار السور فقد ذكر بتلر أنآثاره تدل على أنه كان ثمانية عشر قدمًا ( 5.5 مترًا)، وكان ارتفاع النوافذ فيالطابق الأوسط ثلاثة أمتار، أما في الأعلى فكان مترًا ونصف، ويعلو كل نافذة عقدمقوس. وكانله باب كبير بين الصرحين، وباب آخر في الضلع الجنوبي الغربي يفتح على درج يهبط إلىمرساه على النيل من الحديد، يدلى من أعلى خلال مجريين بالجدران، ويسلك منه طريقبطول الحصن حتى الباب بالضلع الشمالي الشرقي، وكان الحصن على مستوى من الأرض يعلوما حوله، كما كان حوله خندق وكانت مساحته حوالي عشرة أفدنة.
السبت يوليو 27, 2019 4:19 am من طرف طلعت شرموخ
» كنوز الفراعنه
السبت مايو 18, 2019 1:00 am من طرف طلعت شرموخ
» الثقب الاسود
السبت أبريل 13, 2019 1:22 am من طرف طلعت شرموخ
» طفل بطل
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:15 am من طرف طلعت شرموخ
» دكتور زاكي الدين احمد حسين
الأربعاء أبريل 10, 2019 10:12 am من طرف طلعت شرموخ
» البطل عبدالرؤوف عمران
الإثنين أبريل 01, 2019 9:17 pm من طرف طلعت شرموخ
» نماذج مشرفه من الجيش المصري
الإثنين أبريل 01, 2019 9:12 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» حافظ ابراهيم
السبت مارس 02, 2019 1:23 pm من طرف طلعت شرموخ
» دجاجة القاضي
الخميس فبراير 28, 2019 5:34 am من طرف طلعت شرموخ
» اخلاق رسول الله
الأربعاء فبراير 27, 2019 1:50 pm من طرف طلعت شرموخ
» يوم العبور في يوم اللا عبور
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:59 pm من طرف طلعت شرموخ
» من اروع ما قرات عن السجود
الثلاثاء فبراير 26, 2019 5:31 pm من طرف طلعت شرموخ
» قصه وعبره
الأربعاء فبراير 20, 2019 11:12 am من طرف طلعت شرموخ
» كيف تصنع شعب غبي
الخميس فبراير 14, 2019 12:55 pm من طرف طلعت شرموخ